دراما السير الذاتية في مصر رهينة إملاءات الورثة

ظلت دراما السير الذاتية في العالم العربي، وفي مصر تحديدا، على امتداد عقود من الزمن رهينة إملاءات الورثة ووصاياهم على الجهة المنتجة للعمل، فإما أن يُوافق المُسلسل أو الفيلم السينمائي المزمع إنجازه هواهم، فيقدّم وريثهم الفني في شكل البطل الاستثنائي المعصوم من الأخطاء أو يُعدم المشروع وهو في المهد.
القاهرة - يُواجه تجسيد الكثير من الشخصيات العامة في الدراما المصرية مشكلات غير فنية تتمثل أساسا في اعتراض ورثة تلك الشخصيات على تقديم وريثهم فنيا من دون تدخل مباشر منهم.
ففي بعض الأحيان يرفضون تقديم الشخصية تماما، ويتشكّكون في نوايا المنتجين وقدرتهم على إظهارها بشكل جيد، وفي أحيان أخرى يشترطون قراءة نصوص العمل الفني مسبقا، ويطلبون اختيار الممثل المؤدّي للدور، ما يمثل تقييدا للإبداع وتشويها للعمل المنتج نفسه.
ويثير الأمر تساؤلات واسعة حول مدى الحقوق المفترضة لورثة الشخصيات العامة لممارسة قدر من الوصاية على وريثهم دراميا، وما يتعلق بصورته العامة، خاصة أن الآونة الأخيرة شهدت نماذج عديدة لمسلسلات تعرّضت للتوقف النهائي أو التأجيل بسبب تدخلات الورثة.
نماذج متكررة
كان من المقرّر عرض مسلسل بعنوان “الإمبراطور” يُقدم قصة الفنان الراحل أحمد زكي (1949 ـ 2005)، لكن المشروع برمته توقف بسبب معارضة شديدة من ورثة الفنان حيث طلبوا الإطلاع على النص وإجازتهم له قبل تصويره. والقصة طرحها المخرج المصري محمد سامي، ولاقت حماسا شديدا من الفنان محمد رمضان الذي عرض إمكانية تجسيده للفنان الراحل، واتفق بالفعل مع الكاتب بشير الديك على كتابة سيناريو للعمل والبدء في التصوير نهاية العام الماضي.
ورغم تأكيد طاقم المسلسل على أن قراءة ورثة أحمد زكي للعمل قبل تصويره ليست حقا قانونيا لهم، إلاّ أن الذوق العام الحاكم للوسط الفني دفعهم إلى تأجيل العمل لحين إتمام الإجراء المطلوب.
وهناك مسلسل آخر مؤجل منذ 2018، هو مسلسل “الضاحك الباكي” الذي يقدّم سيرة الفنان المصري الكوميدي نجيب الريحاني (1889 ـ 1949)، وهو من تأليف محمد الغيطي، وإخراج عصام شعبان، وسبب التأجيل تمثل في ظهور مفاجئ لجينا نجيب الريحاني التي قالت إنها ابنة الفنان الكوميدي الراحل، وطالبت بإشراكها في متابعة كافة تفاصيل العمل، ما أثار قلقا لدى شركات إنتاج فتر حماسها للعمل تخوفا من المقاضاة.
ولم تقتصر اعتراضات عائلات الشخصيات العامة على ورثة الفنانين الرواد، إنما امتدت إلى شخصيات أخرى تحظى بشعبية واسعة على المستوى المجتمعي، بينها مثلا العقيد أحمد المنسي ضابط الصاعقة المصري الذي استشهد في سيناء سنة 2016.
فقبيل عرض الجزء الأول من مسلسل “الاختيار” في رمضان 2020 تقدّم المحامي جمال عطوة ممثلا عن والدة الشهيد وأشقائه بدعوى مستعجلة لوقف تصوير المسلسل، ومنع الفنان أمير كرارة من تجسيد شخصية الشهيد بزعم أنه غير مناسب، إلاّ أن تدخل جهات عليا أقنع الورثة المعترضين بأن تجسيد شخصية “المنسي” يُحقّق مصلحة عامة.
وإذا كانت اعتراضات بعض ورثة الشهيد أحمد المنسي قد تمت تسويتها قبل الوصول إلى ساحات القضاء، فهناك أعمال درامية أخرى تم تداول النزاع بشأنها في المحاكم لسنوات عديدة، أبرزها فيلم سينمائي بعنوان “الرئيس والمشير”، قصة الكاتب الراحل محمد صفاء عامر، وتتناول صداقة الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر مع المشير عبدالحكيم عامر قائد القوات المسلحة خلال حرب يونيو 1967، واعتبرت أسرة عامر العمل مشوّها لوريثهم وأقاموا دعوات قضائية عطلت إنجازه، وانتهى الأمر صلحا بتحويل الفيلم إلى مسلسل بعنوان “صديق العمر” الذي خرج إلى النور ضعيفا ومشوّها.
ويرى بعض النقاد أن اعتراضات الورثة أكبر عائق أمام تجسيد الكثير من الشخصيات التاريخية دراميا، ويؤكّد الإعلامي محمد الباز والذي يقوم حاليا بكتابة مسلسل تلفزيوني عن حياة الرئيس محمد أنور السادات، أنه واجه والمخرج حسني صالح في بدايات العمل هذا التصوّر، ووضعاه نصب أعينهما، وخلصا في النهاية إلى ضرورة تحرّر العمل الفني من أي ضغوط أو تدخلات من خارجه.
وقال الباز في تصريح خاص لـ”العرب” إن لدى أسر الشخصيات العامة منطقا مفهوما في كونها تريد الحفاظ على صفحات ورثتها بيضاء نقية، وهو منطق يمكن الاستسلام له إن كان العمل المقدّم تسجيليا أو وثائقيا أو دعائيا، لكن الأمر يختلف كثيرا في الأعمال الدرامية، ففيها يتم تقديم وجهة نظر معينة محملة بموقف وانحياز وثقافة الكاتب ذاته.
وأضاف “كل شخصية درامية تحمل على ظهرها نصيبا من الملائكية والشيطنة باعتبارها شخصية بشرية، فالرئيس المصري الأسبق أنور السادات ليس ملكا لأسرته وحدها، لأن آثار سياساته وأعماله امتدت إلى المصريين جميعا، والعالم العربي كله، ومن الضروري قراءته إنسانيا عدة مرات بزاويا مختلفة حسب رؤية كل كاتب”.
وفي تصوّره أن الخلاف لن يحسم في النهاية بسهولة، وتدخل المحاكم طرفا في الكثير من النزاعات حول بعض الأعمال، رغم أن الأمر يجب أن يخضع لمعايير الفن وحدها، والكرة الآن باتت في ملعب ورثة الشخصيات العامة، والذين أصبحوا مطالبين بأن يكونوا أكثر مرونة في تعامل الفن مع وريثهم، خاصة إذا سلمنا بأن الأعمال الدرامية لا تتعمّد التشويه.
أزمة مجتمعية

هناك من يرون أن جوهر القضية يتمثل في أن بعض المجتمعات العربية ما زالت لا تتفهّم طبيعة الفن بشكل واضح، وتصرّ على الخلط بينه والحقيقة.
وأشار الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد إلى أن معظم الشخصيات العامة في البلاد العربية لا تترك وراءها مذكرات حياتية شاملة بالمعنى الحقيقي تساعد على إنجاز فيلم أو مسلسل عن حياتها، ما يجعل الورثة بعد ذلك لا يرون في حياة هذه الشخصيات سوى الجوانب الإيجابية التي قد تصل بهم إلى حد التقديس.
وأوضح لـ”العرب” أن ورثة الشخصيات العامة قد لا يتحملون مثلا ظهور وريثهم في بار أو ملهى ليلي أو في أي لحظة من لحظات الضعف الإنساني الطبيعية، وكأنه كائن متحقّق الكمال، فالمشكلة مجتمعية في المقام الأول، لأن طبيعة المجتمع تقبل خطايا الإنسان ولحظات ضعفه، لكنها تأبى حكي تلك اللحظات.
وتابع عبدالمجيد قائلا “قراءة مذكرات الكتاب والفنانين في العالم الغربي تكشف كيف يتحوّل الصدق إلى جمال حقيقي، حيث تحوي هذه المذكرات تفاصيل دقيقة لكل شيء، ولا يعرف أصحابها أي تابوهات، كما تقدّم الكثير من الأحداث الجادة تتضمن الخطايا والاعترافات والانحرافات”.
ولذلك تلعب طبيعة المجتمعات العربية دورا مهما في تقييد العمل الفني وترسّخ للوصاية الكاملة على كل شيء في الحياة، ومنها الفن بطبيعة الحال.
ولم يعد من المستغرب اعتراض أحد ورثة فنان أو زعيم على عمل فني ما بدعوى أن العمل يشوّهه، لأن هناك فكرة شائعة في الأذهان بأن الدراما هي المصدر الأول للمعرفة وليست وسيلة للمتعة والفن.
وثمة من يعتقدون أنه حتى لو كان العمل الفني المقدّم وسيلة للمعرفة، فهذا الاعتبار يتطلب عدم الخضوع لأسر الشخصيات العامة في تحصيل هذه المعرفة، لأنهم يرون وريثهم في بيته وأهله بوجه ما، لكنهم لا يرون الوجه الآخر في العمل أو مع الخصوم أو الآخرين، فتحرّي الإنصاف نفسه يتطلب رفض وصاية الأهل على أي عمل يقدّم شخصية عامة.
ويقول نقاد كثيرون إن الفن تحرّر واتساع وتجاوز للقيود، ويطلق العنان للتخييل بهدف صناعة الجمال والمتعة، فإن العمل الدرامي الجيد يولد ليبقى، ويعيش للأبد، ولا يخاطب الجيل الآني وحده، إنما كافة الأجيال القادمة.
وأكّد الروائي والسيناريست أحمد مراد أن الوجهة الفنية يجب أن تُقدّم على أي وجهة أخرى، فالخيال يستدعي فتح الآفاق بحرية للمبدعين لتقديم الشخصيات العامة برؤى متجددة ومتنوعة لا تسقط عنهم طبيعة البشر.
وأوضح لـ”العرب” أن المبالغة في تجميل الشخصية العامة تمثل عائقا أمام تقبل المتلقي للعمل، وضرب المثل بفيلم “روكيت مان” المنتج سنة 2019 من إخراج ديكستر فليتشر، وكتابة لي هال، وجسّد سيرة المطرب الإنجليزي إلتون جون، حيث حقّق نجاحا مبهرا، رغم أنه استعرض الكثير من خيالات وتخاريف المطرب المحبوب، لكن ذلك تولد من شعور طاقم الفيلم بأنهم يقدّمون شخصية إنسانية حقيقية بكافة جوانبها.
وشدّد مراد على أهمية أن يكون الولاء للفن والإبداع أولا وأخيرا، وليس لأسرة شخص ما، مهما كانت شعبية هذا الشخص.