دبلوماسيون في أثواب الكهنوت

ركوع البابا فرنسيس بعد خلوة روحية غير مسبوقة في الفاتيكان، لتقبيل أقدام زعماء جنوب السودان المتحاربين السابقين، وحثهم على عدم العودة إلى الحرب الأهلية، لا يعد خروجا عن البروتوكولات كما يظن بعض المراقبين والمحللين، وحتى منتقديه من داخل كنائس مسيحية، ذلك أن اللقاء لم يكن سياسيا بالمفهوم المتعارف عليه بين زعماء الدول، بل أملته حاجة ورغبة وإرادة للسلام كأقصى ما يمكن أن تنشده، وتسعى إليه وتحافظ عليه، مؤسسة روحية عريقة مثل الفاتيكان.
“تقبيل الأحذية من أجل السلام” رسالة عالية الرمزية ومكثفة الدلالة، ولا يمكن أن يستوعبها البشر العاديون من ذوي الإدراك السطحي في بعده الأفقي الأول.
نعم، يمكن للمؤسسة الدينية أن تصلح ما أفسدته السياسة، وتساهم في إعادة ترميم ما دمرته الحروب في النفوس من قيم إنسانية.. أليست هذه مهمة المؤسسة الدينية بدل أن تصبح سببا في الفتن والنزاعات بين الدول والمجتمعات والأفراد.
ما يحاول أن يفعله الفاتيكان في السنوات الأخيرة من مبادرات للتقريب بين الثقافات المتنازعة، هو ما يجب أن تضطلع به أي مؤسسة دينية أخرى، ومنذ زمن بعيد، بدل تغذية الخلافات وتعميقها بالانحياز إلى طرف ضد آخر، فهل بدأ الفاتيكان بتصحيح المسار والتكفير عن تجاوزات حدثت في الماضي أم أن مبادرة البابا فرنسيس، تُحفظ ولا يقاس عليها في بقية الديانات والمراكز التي تمثلها مثل مؤسسة الأزهر في العالم الإسلامي، والتي بدأت تحذو حذو الفاتيكان، ولو بفاعلية متعثرة؟
إن من يقول باستحالة المقارنة أو المقاربة بين الديانتين، على اعتبار أن الإسلام، وعلى عكس المسيحية، يهتم بشؤون الدين والدولة في آن معا، ولا يمكن لشيوخه القيام بدور الحياد الإيجابي المطلق، نسي أن المؤسسة الكنسية قد تورطت منذ العصور الوسطى، وعلى امتداد قرون من الزمن في حروب طاحنة باسم الدفاع عن أتباعها. وها هو الفاتيكان اليوم يطوي صفحة من الماضي ويعود إلى لعب دور الدبلوماسي النزيه، ليس بين أبناء المسيحية فحسب، كما هو الحال مع زعيمي جنوب السودان، بل مع متنازعين ومتخاصمين من ديانات أخرى.
يمكن للمؤسسة الدينية أن تصلح ما أفسدته السياسة، وتساهم في إعادة ترميم ما دمرته الحروب في النفوس من قيم إنسانية.. أليست هذه مهمة المؤسسة الدينية
الدبلوماسية الروحية ليست على تلك الدرجة من الطوباوية والمثالية التي قد تبلغ حدود السذاجة وتجاهل المصالح الحيوية في القاموس السياسي، بل تملك من الحنكة المستندة إلى الواقعية والبراغماتية، ما يجعلها لا تعتقد في سلام يولد بلمسة سحرية بل تحث على العض على الجراح من أجل مصلحة الشعوب.. أليست السياسة في أرقى وأنبل مفاهيمها هي مسؤولية الفرد إزاء المجموعة.
وفي هذا الصدد قال بابا الفاتيكان أمام طرفي النزاع في جنوب السودان، وبحضور جميع من يمثل المنطقة من رؤساء كنائس “ستكون هناك صراعات وخلافات في ما بينكم ولكن احتفظوا بها بينكم، داخل المكتب، إذا جاز التعبير، لكن أمام الناس، ضعوا أيديكم في أيدي بعضكم لتأكيد الوحدة.. وبذلك ستصبحون كمواطنين بسطاء، آباء للأمة”.
الدبلوماسية الروحية لا يمكن لها أن تكون بديلة عن الدبلوماسية السياسية في تقريب وجهات النظر، لكنها يمكن أن تكون موازية له، تمشي إلى جانبها ولا تلغيها، وذلك لما للقيم الدينية من مكانة في نفوس الأفراد وتقاليد المجتمعات. وبإمكان مؤسستي الأزهر والفاتيكان أن تؤثرا في أكثر من نصف سكان العالم وفق الإحصائيات المتاحة (قرابة 32 بالمئة من المسيحيين و24 بالمئة من المسلمين)، وعند ذلك، تُحل بالتأكيد أكثر من نصف مشاكل سكان العالم.
قد نتهم بالمبالغة في تمجيد دور الدبلوماسية الروحية في عالم لا تتمحور أزماته حول الخلافات الدينية بقدر ما يعاني من مشاكل مالية وغذائية وصحية، أيقظت بدورها نعرات دينية ونزعات شعبوية. الثقافة الروحية يمكن أن يعوّل عليها لما لها من دور في تهيئة النفوس وتحفيزها نحو النزوع إلى السلام وتبني قيم الانفتاح والتسامح، خصوصا أن إنسان العصر صار يتوق إلى تعبئة هذا الفراغ الروحي في تعليب كل شيء وجعله مجرد سلعة في أسواق المال.
بات من المفارقات الغريبة أن المعتقدات الدينية، وبقدر ما تصنع الخلافات وتذكي الحروب، فإنها تتدخل لحلها وصناعة السلام أيضا، عملا بمبدأ “ومن الداء يُصنع الدواء”. ولمن يتمسك تعسفا بالرأي القائل بعدم المزج بين الديني والسياسي، فلقد تناسى أن التداخل بين الاثنين قديم قدم المجتمعات البشرية ونشوئها، لذلك وجب على الديني والسياسي أن يلتقيا عند مبدأ “الإنسان وصناعة السلام” كمنطلق واحد وغاية واحدة.