دانييل إيك سويدي يجلب موسيقاه العادلة إلى العالم العربي أخيرا

أخيرا وصلت سبوتيفاي إلى العالم العربي، بعد انتظار طويل. أشهر منصة موسيقية في عصرنا الحديث، أحدثت ثورة غيرت العالم حين انطلقت، لكن هناك من منع تأثيراتها من القدوم إلى عالم العرب، ولعل حيتان الموسيقى، وتجارة الصوت، في أميركا كان لهم الدور الأكبر في ذلك. لكن السويديين كان لهم رأي آخر. وكما يتماهى هؤلاء مع طقسهم البارد وهشاشة ثلجهم الذي يثقل الأرض بصمته وهدوءه، تجدهم هنا في ستوكهولم يتعاملون مع إنجازاتهم وابتكاراتهم بالكثير من الجدية والقليل من الضجة الإعلامية، لذلك قد تُفاجأ عندما تعلم بأنهم يقفون خلف أكثر برامج وتطبيقات الاتصالات الحديثة في العالم؛ الشاب نيكلاس زينستروم، على سبيل المثال، هو من أسس برنامج تبادل الملفات الشهير “كازا”، وشبكة “سكايب” للاتصالات المرئية عبر الإنترنت، وطورها مع مواطنه يانوس فريس، قبل أن يقوما في سبتمبر عام 2005 ببيع “سكايب” لموقع إيباي بمبلغ 2.6 مليار دولار.
ليس هذا فقط، بل إن السويدي لودفيغ ستريغوس يعتبر الشخص الذي يقف خلف خدمة يوتورنت البصرية، ويعتبر مواطنه دانييل إيك أيضا صاحب فكرة عملاق الموسيقى الرقمية “سبوتيفاي” والمؤسس والمدير التنفيذي لشركة سبوتيفاي التي تعتبر أهم منصة موسيقية رقمية في العالم، وهي النظير الحقيقي لليوتيوب الذي يتخصص بالمقاطع المصورة.
رحلة الصوت
عالم الصوت عالم مثير، وقصته معنا قصة لا تقل غرابة. فقد مر برحلة طويلة من الشغف بالموسيقى عاشتها الأجيال لتدوين الموسيقى وتسجيلها وحفظها. في البدء كان الفونوتوغراف عام 1857 للفرنسي إدوار ليون دو مارتنفيل، وهو أول جهاز يتمكن من تسجيل الأصوات الحقيقية أثناء مرورها بالهواء، ولكن لم تكن له القدرة على تشغيلها، وفي عام 1877 قدم توماس إديسون جهاز فونوغراف أسطواني ميكانيكي لتسجيل الصوت وإعادة إنتاجه، ليصبح هذا الاختراع خلال العقدين التاليين بمثابة التسجيل التجاري ومبيعات التسجيلات الصوتية التي أصبحت صناعة عالمية جديدة ناشئة، وكانت الأسطوانة هي التنسيق الأساسي للمستهلك حتى العام 1910، وكان التطور التقني الكبير التالي هو الغراموفون الذي يرجع الفضل فيه إلى إميل بيرلاينر، حيث كانت الأقراص أسهل في التصنيع والنقل والتخزين بميزة إضافية وهي أن صوتها أعلى نسبيا.
وما بين الفونوغراف وظهور الوسائط الرقمية يُرجّح أن أهم نقطة تحول في تاريخ تسجيل الصوت كانت ما يسمى بـ”التسجيل الكهربائي” الذي استخدم فيه ميكروفون لتحويل الصوت إلى إشارة كهربائية تم تضخيمها واستخدامها في إبرة التسجيل.
في العام 1948 تم اختراع الشريط المغناطيسي ومسجل الشرائط “التليغرافون” حيث استخدم أولا شريط ورقي، ثم تم تطويره للبوليستر فكانت هذه التكنولوجيا أساس التسجيلات التجارية من الخمسينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي. خلالها ظهر شريط الكاسيت الذي احتوى على المزيد من المزايا لتنقية الصوت وتضخيمه بشكل احترافي أكثر.
عدو غوغل
أحدث القرص المضغوط موجة كبيرة من التغيير في صناعة الموسيقى، لتأتي ثورة التسجيل الرقمي مع تطوير تنسيق الملف الصوتي المضغوط وغير المضغوط والمعالجات المتمكنة والسريعة بالقدر الكافي لتحويل البيانات الرقمية إلى صوت والتخزين الكبير غير المكلف، قبل أن تصبح الموسيقى متاحة عبر شبكة الويب، حيث أصبحت كل الاختراعات ومراحل التطور الموسيقي التي ذكرناها ذكرى من زمن ماض، إلى أن ظهر إيك.
وعندما أراد هذا الشاب أن يحلم، اصطدم حلمه برفض محرك البحث غوغل، حين رفضوا توظيفه. لكن لم يتوقف إيك عند ذلك الأمر، بل فكر بطريقة مجنونة، حين قام بإنشاء محرك بحث خاص به، ربما كان حلم هذا الشاب الذي ولد أواسط الثمانينات، مجنونا لكنه استثمر فيه دراسته للهندسة المعلوماتية في المعهد الملكي للتكنولوجيا في سوندبيري.
منذ سن الثالثة عشرة عمل إيك من منزله في تصميم المواقع الإلكترونية مقابل 100 دولار، ولكن تزايد الطلب عليه دفعه إلى توظيف طلاب من صفه الدراسي للعمل معه، فوصلت أرباحه في نهاية المطاف إلى خمسين ألف دولار شهريا. وعندما بلغ سن الثامنة عشرة كان يدير فريقا من 25 شخصا، ولكنه صُدِمَ بخطاب من مصلحة الضرائب السويدية أعاده إلى نقطة الصفر.
ورغم مشاركته لستريغوس في تطوير برنامج يوتورنت، إلا أن حلم إيك الأكبر كان قريبا جدا، لذلك أنعش فكرته السابقة بإنشاء موقع سبوتيفاي، لأنه أدرك كما يقول أن “القوانين تساعد على حل مشكلة قرصنة الأغاني، ولكنها لا تنهي المشكلة”. لذلك وجد أن الطريقة الوحيدة لذلك هي إنشاء خدمة يحارب بها القرصنة ويقدم تعويضات معقولة لصناع الموسيقى.
ومع صديقه مارتن لورنتزون، بدأ إيك باطلاق شركة خدمة البث القانوني للموسيقى الرقمية، وتطورت الخدمة سريعا، رغم أن لورنتزون ترك الشركة، إلا أن إيك تابع عمله ليصبح لدى سبوتيفاي 160 مليون مستخدم، بقيمة أسهم بلغت 16 مليار دولار.
استعادت صناعة الموسيقى السويدية عافيتها ونضارتها مع سيطرة سبوتيفاي على السوق بوصفها عملاقا موسيقيا رقميا على مستوى العالم في أكثر من 58 دولة، ومكاتبها منتشرة في تسع مدن بما فيها المكاتب الرئيسية في ستوكهولم ونيويورك ولندن، وبأكثر من 3000 موظف تتيح الخدمة للمستخدمين الاستماع لأكثر من 8 ملايين أغنية مجانا، أو برسوم قدرها 10 دولارات شهريا مقابل إصدار خال من الإعلانات.
تغيير العالم الموسيقي
يقول إيك “بقدر ما أنا معجب بالفنانين، إلا أن اهتمامي أكبر بالمستمعين، فهم هدفنا الأبرز لأننا نسعى لإعادة هندسة الطريقة التي يُستمع بها للموسيقى“. وحين راقب مع فريقه الطريقة التي يتفاعل بها الناس مع الموسيقى، لوحظ أنهم لم يكتفوا بالاستماع لموسيقاهم المفضلة بل بدأوا بتبادل الأفكار الموسيقية والتعمق في الأنماط الموسيقية وصفاتها وخصائصها، مما فتح نوافذ للمعرفة الموسيقية في أنحاء العالم. ولم تعد الموسيقى بعد سبوتيفاي شأنا واهتماما محليين ليس إلا، بل أصبحت بالفعل “لغة عالمية” تخاطب الروح والعقل.
الميزة الجديدة في سبوتيفاي تمنح الإمكانية لاقتراح الأغاني على أساس سلوك المستخدم المعتاد في وقت معين من اليوم، فتصبح قائمة التشغيل الموسيقية متعددة تماما مثل لغة البرمجة، ولذلك يقول الموسيقى الهولندي دي جي تيستو "هذا هو المكان الذي تتجه إليه لخلق مزاج المستمع بدلا من مزاج الفنان"
ومن هنا كانت الميزة الجديدة، إذ أصبح بالإمكان اقتراح الأغاني على أساس سلوك المستخدم المعتاد في وقت معين من اليوم، فتصبح قائمة التشغيل الموسيقية متعددة تماما مثل لغة البرمجة، وعلى سبيل المثال يوضح الهولندي دي جي تيستو تفاصيل الموسيقى التي ألفها خصيصا لسبوتيفاي والتي سماها “ركض”، لتلائم إيقاع المستخدم أثناء رياضة الصباح، ويقول تيستو “هذا هو المكان الذي تتجه إليه الموسيقى لخلق مزاج المستمع بدلا من مزاج الفنان”.
ولكن كيف أنقذت سبوتيفاي صناعة الموسيقى في العالم؟ على الرغم من أن الفنانين الكبار كانوا يبيعون الملايين من الأسطوانات، إلا أن شركات الإنتاج الموسيقي كانت تبدو دائما كئيبة، لأن العائدات كانت تسجل انخفاضا مطردا. وكان على هذه الشركات خوض معارك قانونية مع مراهقين قاموا بتحميل الموسيقى بشكل غير قانوني، وكان لا بد من إنفاق الأموال لحملات دعائية لتعليم الشباب قيمة الملكية الفكرية.
ولكن ما حصل مع سبوتيفاي جعل الجميع يدركون أنهم أمام ما أسموه “ثورة التدفق الموسيقي الرقمي”، وفي الوقت الذي كانت فيه بعض الألبومات الغنائية تتعرض للقرصنة كانت سبوتيفاي تسجل لها أكثر من 70 مليون مرة للاستماع وهذا يعادل إيرادات بمئات الآف من الدولارات للفنان.
كان مؤلما أن تنهار صناعة الموسيقى في الولايات المتحدة وتنخفض الإيرادات السنوية من 14.6 مليار دولار عام 1999 إلى 6.3 مليار دولار عام 2009. لكن دخول خدمة سبوتيفاي مجال صناعة الموسيقى الرقمية غيّر المعادلات والإحصاءات. فارتفعت إيرادات الموسيقى الرقمية بشكل كبير عن إيرادات الأشكال التقليدية للبيع، وظهر ذلك جليا في السوق البريطانية التي زادت فيها الأرباح بنسبة 45 بالمئة، من 239 مليون جنيه إسترليني في عام 2016 إلى 347 مليون جنيه إسترليني في عام 2017. وبذلك باتت صناعة الموسيقى أكثر ديمقراطية، وأصبحت القرصنة في أضعف حالاتها، وعادت حقوق الملكية الفكرية للمبدعين تستعيد رونقها وفاعليتها، مما أعطى للمبدعين الكثير من حقوقهم المهدورة.
العرب وعولمة الموسيقى
تجربة إيك وحقله الواسع المثير الذي يعكس التطور التكنولوجي الهائل الذي يغزو العالم مساهما في الصناعة الموسيقية والانفتاح على ثقافات وخصوصيات موسيقية متنوعة، يعيدان إلى الذهن السؤال حول مسألة التراث والتجديد وهوية الإنتاج الموسيقي العربي في ظل كل هذه التطورات الحضارية، ويبدو منطقيا الانحياز نحو أنماط موسيقية معينة قد يكون التطور التكنولوجي مساهما في نشرها بهدف توحيد موسيقى الشعوب، لتحل مكانها موسيقى عالمية يطلع عليها الجميع.
ومن هنا يبرز تحد كبير يواجه الموسيقى العربية للحفاظ على الهوية الموسيقية في غمرة الثورة الرقمية، فلا يمكن للموسيقي أن يكون مسايرا لروح العصر، ما لم يكن قريبا من صورة التحولات الرقمية الجارية في عالم اليوم، وهذا راجع إلى ارتباط الموسيقى تصورا وإبداعا وإنتاجا وتلقيا بوسائط رقمية غاية في التعقيد والدقة والفعالية، خاصة ما يتعلق منها بالكومبيوترات وشبكة الويب. ولذلك لا يمكن تصور أبسط مواكبة لهذا الواقع الجديد من دون مواكبة معرفية تنهض على امتلاك حد أدنى من المعرفة المعلوماتية.
لقد تغير إيقاع الحياة في العصر الرقمي، ولم يعد أمام الموسيقي الطموح خيار غير العزف على وتيرة هذا الإيقاع، فقد اشتدت هيمنة الوسائط الرقمية على الحياة اليومية، وازدادت انتشارا، وتزايدت الحاجة إلى المعلومة والمادة الفنية.
خدمة سبوتيفاي كانت متاحة بشكل غير رسمي في العالم العربي لعدة سنوات ماضية، عبر حسابات عادة ما تسجل في أسواق أخرى مثل أوروبا. لكنها في نهاية العام الماضي 2018 دشنت نشاطها رسميا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، معلنة أن خدماتها ستكون متوفرة الآن في 13 سوقا عربية بينها السعودية والإمارات ومصر والمغرب، لكنها لن تكون متاحة في ليبيا أو العراق أو سوريا أو اليمن.
انتقام الآخرين
لم تكن الطريق سهلة أمام سبوتيفاي ومؤسسها، لأنه أصبح بسرعة قياسية مسيطرا على سوق صناعة الموسيقى الرقمية، متجاوزا كل العقبات التي وضعتها في طريقه شركة آبل التي أرادت شراء الخدمة لكنه رفض. فتحركت ضده قضيتان من قبل فنانين ادعيا أنهما لم يتقاضيا تعويضات كافية عن أعمالهما نظير البث على خدمة سبوتيفاي التي دفعت لهما حسب حكم المحكمة 112 مليون دولار.
وكان على سبوتيفاي الانتظار أكثر من خمس سنوات على انطلاقتها قبل أن تستطيع إطلاق خدمتها في أميركا، إذ وضعت دون ذلك عقبات كبيرة من شركات التسجيل الرئيسية ومع منافسين مثل آبل، ولكن الآن وبوصولها إلى 160 مليون مستخدم شهريا بما في ذلك 71 مليون مشترك مدفوع الأجر، والباقون ضمن باقة الاشتراك المجاني، جعلها في منافسة شرسة مع عملاقي التكنولوجيا آبل وأمازون على صدارة البث الموسيقي.
كل ذلك لم يفت في عضد إيك، لأنه يدرك أن استئثار سبوتيفاي بنسبة 51 بالمئة من استهلاك الموسيقى في الولايات المتحدة سوف يجعله هدفا، لكنه تلقى ترميما للندوب التي تركتها الحروب التي تعرض لها عندما تم اختياره “أقوى شخص في صناعة الموسيقى في العالم”، حيث جاء في قرار الجائزة أن إيك استطاع أن يبرز النمو الكبير لصناعة الموسيقى المسجلة في العالم.
أخيرا يجب أن نعلم أن قيمة صناعة الموسيقى في العالم تبلغ حاليا 17 مليار دولار، ويتوقع أن تصل إلى 50 مليار دولار قريبا، وأن عدد المسيطرين على هذه الصناعة سيتضاءل في السنوات المقبلة، وتبدو الفرصة لا تزال قائمة ليكون للموسيقى العربية موطئ قدم حقيقي في عالم هذه الصناعة التي باتت في الألفية الثالثة من الصناعات الثقيلة حقا.