داعش يحتفظ بـ"الخلافة الافتراضية" بفضل الشبكة العميقة

اعتمد تنظيم “داعش” منذ بداياته على الدعاية المكثفة لخدمة مشروعه الإرهابي باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، مستفيدا من إتقان بعض مقاتليه الشباب للتقنيات الحديثة، ما جعل انتشارها واسعا وتأثيرها كبيرا، ورغم انحسار دعايته اليوم على الإنترنت إلا أنه ما زال ناشطا في الشبكة العميقة.
باريس - رغم أنه أُعلن القضاء التام على “خلافة” تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا، إلا أن سجلّ التنظيم الموثق بمقاطع فيديو وحشية عن عمليات إعدام يبقى مطبوعا بأذهان الجميع في العالم وسيستخدم نموذجا لزرع الرعب في العالم.
وبعد هجوم كاسح عام 2014 مكنه من السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي في سوريا والعراق أعلن فيها قيام دولة “الخلافة”، خاض تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان يتحكم في ذلك الحين بمصير سبعة ملايين شخص، حملة دعائية مكثفة على الإنترنت حيث كان يبث أشرطة كثيرة متقنة التصوير والإخراج.
لكن حضوره على الإنترنت ينحسر اليوم بشكل متزايد مع مقتل قادته أو فرارهم، وتشتّت قواته وتدمير مراكزه الإعلامية وصعوبة تواصله مع قيام أجهزة الاستخبارات في جميع أنحاء العالم بمراقبة قنوات اتصالاته أو قطعها.
غير أن مشاهد جندي سوري تدهسه دبابة وطيار أردني يُحرق حيّا في قفص والعديد من الفظاعات الأخرى التي ارتكبها التنظيم المتطرف لا تزال راسخة في أذهان من عاشوا هذه الأحداث وتابعوها.
وركز التنظيم على شخصيات بارزة من صحافيين وناشطين أجانب في المجال الإنساني، لإعطاء جرائمه وقعا قويا أمام الرأي العام العالمي وحتى تبقى ماثلة في الأذهان. مثل التسجيل المصور الذي يظهر إعدام التنظيم للصحافي الأميركي جيمس فولي (40 عاما)، الذي أسر بشمال سوريا في نوفمبر العام 2012.
وفولي أول صحافي أجنبي يعدمه التنظيم المتطرف. وكان صحافيا متمكنا شارك في تغطية الحرب في ليبيا قبل أن يتوجه إلى سوريا لتغطية الاحتجاجات التي عمت البلاد. وتعاون مع وكالة فرانس برس و”غلوبال بوست” ووسائل إعلامية أخرى.
داعش وظف كمية من الوقت والمال والطاقة والموارد البشرية أكبر بكثير من أي مجموعة قبله
وفي فيديو إعدام فولي، ظهر مراسل أميركي آخر هو ستيفن سوتلوف (31 عاما) فيما هدد أحد الجهاديين بقتله إن لم يوقف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الغارات ضد التنظيم المتطرف في العراق.
وقال تشارلي وينتر، الباحث في المركز الدولي لدراسة التطرف في معهد كينغز كوليدج بلندن، “هذا سيبقى بالطبع في ذاكراتنا، تماما مثلما بقيت القاعدة في أذهان الجميع بعد مقتل أسامة بن لادن”.
ولم يكن تنظيم الدولة الإسلامية أول تنظيم استخدم العنف الدموي في دعايته. فقد سبق أن نشر تنظيم القاعدة شريط فيديو لإعدام الصحافي الأميركي دانيال بيرل في 2002 بباكستان، كما أن عصابات تهريب المخدرات المكسيكية تعرض بانتظام مقاطع فيديو لعمليات قتل بقطع الرأس.
غير أن مقاطع تنظيم الدولة الإسلامية تتميّز بخطاب وإخراج أشبه بأفلام هوليوود، كما الفيديو الذي تناقلته مواقع جهادية على شبكة الإنترنت في 3 فبراير 2015 عن إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقا وهو حي، بعدما سقطت طائرته في سوريا في 24 ديسمبر، وتحدثت وسائل الإعلام وقتها عن التقنيات التي استخدمها التنظيم لجعل الفيديو مروّعا، ما جعل هذه المقاطع تطال جمهورا أوسع بكثير.
كما أن استخدام التنظيم لمواقع فيسبوك وتويتر ويوتيوب وتطبيق تليغرام مكنه من إحراز الملايين من المشاهدات.
وقال وينتر إن تنظيم الدولة الإسلامية وظّف “كمية من الوقت والمال والطاقة والموارد البشرية أكبر بكثير من أي مجموعة قبله لإنتاج هذه الدعاية”، مضيفا “كانوا سباقين في الاستفادة المثلى من هذه الدعاية وطرق إنتاجها’.
ويرى المحللون أن التنظيم المتطرف يظهر مهارة خاصة في استخدامه لشبكات التواصل الاجتماعي لنشر التطرف بين الآلاف من الشبان المسلمين الذين يشكون من التهميش، من خلال بث صورة قوة لا تقهر في ميادين المعركة أو استخدام وسم عن المغني الكندي الشاب جاستن بيبر في دعايته.
وفيما هيمنت مشاهد الصلب أو قطع الرؤوس على الصحافة الدولية، سعى التنظيم في مقاطع فيديو أخرى إلى أن يظهر صورة حياة “هانئة” و”سعيدة” في أرض “الخلافة” التي أعلن قيامها في مناطق سيطرته.
وقال مارك هيكر، الباحث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، إن “معظم مقاطع الفيديو، وبصورة عامة معظم المحتويات على الإنترنت التي أنتجها تنظيم الدولة الإسلامية في تلك الفترة، كانت تعرض محتوى خياليا، يحاول من خلالها أن يظهر أنه يريد بناء دولة فاضلة ومجتمعا مثاليا”.
وكان المقاتلون الأجانب رأس حربة هذا الجهد الدعائي، عبر التقاطهم صور “سيلفي” حاملين أسلحة كلاشنيكوف. واعتبر الصحافي الفرنسي المتخصص في شؤون الجهاديين دافيد تومسون في كتابه “لي روفونان” (العائدون) أنهم يرسمون صورة حياة هانئة في كنف “الخلافة”.
وذكر الخبير في مؤسسة الخدمات الموحدة الملكية رافاييلو بانتوتشي على سبيل المثال الجهادي البريطاني المولد جنيد حسين، الذي كان يستخدم موقع تويتر وشبكات التواصل الاجتماعي، لتشجيع المتعاطفين مع تنظيم الدولة الإسلامية في أنحاء العالم للتحوّل إلى “ذئاب منعزلة” وتنفيذ الاعتداءات. ويقول بانتوتشي إن “الأشخاص المكلفين بالتواصل في التنظيم هم فتيان في العشرينات من العمر يتصرّفون داخل تنظيم إرهابي كما لو كانوا بمنازلهم (..) لم يقوموا بأي شيء استثنائي”.
وجعل هذا الوجود على شبكات التواصل الاجتماعي من مروجي أفكار التنظيم عبر الإنترنت هدفا رئيسيا للاستخبارات الدولية. وفي الآونة الأخيرة، استخدم هؤلاء “الشبكة العميقة” (وهو جزء مشفر من الشبكة الإلكترونية يستحيل ضبطه) وزواياها الخفية لتشجيع عناصر التنظيم والمتعاطفين معه على التحرك.
وبحسب الباحث وينتر، فإن تأثير التنظيم على الدعاية الإرهابية كان “هائلا”. ورأى أن “هذا الأمر أعطى بعدا عالميا للأيديولوجيا الإرهابية كما لم يفعله أحد من قبل. وسيكون لذلك حتما تأثير على الجهاديين في السنوات القادمة”.
يذكر أن حملة أمنية منظمة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في أبريل 2018 أسهمت في تعطيل الآلة الدعائية التابعة لتنظيم الدولة. وشاركت 8 دول في العملية، نجحت في شل قدرة “داعش” على نشر دعاياته من خلال الإعلام.
وبحسب المدير التنفيذي للوكالة الأوروبية للشرطة (يوروبول) روب واينرايت، فإن منصات إخبارية ووسائل إعلام كان يستخدمها التنظيم أيضا لتجنيد الشباب في أوروبا ونشر التطرف.
كما استهدفت العملية قنوات دعائية أخرى، من بينها وكالة “ناشر” و”هلموا” و”إذاعة البيان”، ونجحت في إعاقة بث المواد الإرهابية لفترة غير محدودة.
وأوضحت “اليوروبول” أن العملية قادها مدّعون من بلجيكا، ضمن فرق من بلغاريا وفرنسا وهولندا ورومانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.
وأشار إلى أن الشرطة الفرنسية والرومانية والبلغارية لديها كميات من الأدلة الرقمية الخاصة بالتنظيم، في حين سيطر ضباط من هولندا وأميركا وكندا على خوادم لـ”داعش”.