"خنجر سليمان".. حكاية بطل عربي تحدى نابوليون

البطل شخصية إشكالية غالبا، إذ تعتبره الشعوب بطلا محررا ثوريا بينما تعتبره السلطة التي يثور ضدها مجرما وسفاحا وغيرها من الصفات، لكنّ شخصية البطل تعيش قرونا وتحاك حولها الأساطير والحكايات فتخلد هي بينما تنتهي السلطة إلى النسيان في المخيلة الشعبية، ومن هؤلاء الأبطال شخصية إشكالية في التاريخ هي سليمان الحلبي الذي جعله الروائي صبحي فحماوي بطلا لروايته “خنجر سليمان”.
تتماس رواية “خنجر سليمان” للكاتب الروائي الأردني صبحي فحماوي مع قصة “سره الباتع” للكاتب المصري يوسف إدريس (إحدى قصص مجموعة “حادثة شرف”)، والتي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني رمضاني (2023) جاء في ثلاثين حلقة بالعنوان نفسه “سره الباتع”، من سيناريو وحوار وإخراج الفنان خالد يوسف الذي أضاف إليها من الزمن الحاضر بعض أحداث ثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013.
يقول المسلسل طبقا لما جاء في القصة “لما الغزاة العدوين هجموا على مصر، قام لهم السلطان حامد، وأصحابه، وقال لهم والله ما تدخلوا إلا على جثتي”.
وكأن سليمان الحلبي السوري المجاهد -الذي قتل الجنرال كليبر- هو هذا الصوت المصري الأصيل الذي يؤكد قائلا “والله لو جبتوا قد جيشكم ده آلافات ما تقدر جيوش الدنيا كليتها تلحلحني عن تراب البر”.
في “سره الباتع” يقول روجيه رئيس البعثة العلمية المصاحبة للحملة الفرنسية في رسائله إلى صديقه روان “أتحدى التاريخ أن يثبت أن غازيا دخل هذه البلاد واستطاع أن يغادرها سالما، لديهم آلة عجيبة، هؤلاء الفلاحون، يستعملونها لطحن الحبوب، حجر كبير يدور فوق حجر كبير ويوضع الحب من فوق سليما ليخرج من بين الحجرين أنعم من الدقيق”.
إن سليمان الحلبي تماهى في صورة السلطان حامد في الذاكرة الشعبية “حين يصبح الشخص بموته أكثر خطورة من كل ما كانه أثناء حياته، وتصور الجماهير الغفيرة حين تأتي من أماكن بعيدة ساحقة البعد، فقط لتزور ضريح ميت، حتى ولو كان قاتله أحد الفرنسيين”.
سليمان وبونابرت
أحداث الرواية تدور في أكثر من مكان بين الشام ومصر، وخاصة حلب وغزة والقاهرة، أثناء الحملة الفرنسية
أما عن رواية “خنجر سليمان” لصبحي فحماوي فتدور أحداثها في أكثر من مكان بين الشام ومصر، وخاصة حلب وغزة والقاهرة، أثناء سنوات الحملة الفرنسية على الشرق 1798 – 1801. ففي الوقت الذي أخذ سليمان يعد العدة للذهاب إلى التعلم في الجامع الأزهر بمصر، كان نابليون بونابرت يعد العدة لغزو الشرق، والاثنان يصلان تقريبا في التوقيت نفسه، سليمان يدخل مصر من جهة غزة قادما من الشرق يحمل الحلم والرغبة في التعلم ليعود إلى دياره وقد أصبح مفتيا وعالما ومتفقها ومتبحرا في علوم الدين، ونابليون يدخل مصر من جهة الإسكندرية قادما من الغرب أو من الشمال حاملا الحلم بتكوين إمبراطورية فرنسية كبرى -مثل إمبراطورية الإسكندر الأكبر- عن طريق الاحتلال والقتل وسفك الدماء.
ولكن الإسكندر سيصاب بالحمى أو الطاعون في بابل ويموت هناك في شهر يونيو من عام 323 ق. م، وسوف نرى أن عددا كبيرا من جنود نابليون يموتون بالطاعون في فلسطين، فيأمر بونابرت بثلاثة إجلاءات لمرضى الطاعون، وأثناء الانسحاب يأمر بتدمير جميع المواقع التي يمر بها الجيش، مع ذبح كل الماشية التي يصادفها جيشه الجائع المنهك، وحصاد المحاصيل التي يمر بها سواء لاستهلاك ثمارها أو إطعامها للخيول، حسب القيم والأخلاق الفرنسية.
الاثنان سليمان الحلبي ونابليون بونابرت يخرجان من ديارهما تحت ضغط وإلحاح داخلي، فسليمان الحلبي خرج تحت ضغط زوجة أبيه التي رأت بعد أن رزقها الله بالأبناء أن تبعد سليمان -ولو مؤقتا- عن طريقها، ليخلو لها وجه أبيه، وقد فهمت أم سليمان فكرة ضرتها، ولكنها لا تملك المعارضة، ورأت أنه ربما يكون في هذا السفر خير وفرصة نجاح لوحيدها سليمان. أما في فرنسا فقد كانت هناك رغبة في إبعاد نابليون عن المشهد السياسي لوجود خلافات بينه وبين بعض الزعماء بعد نجاح الثورة الفرنسية التي اندلعت أحداثها سنة 1789 واستمرت حتى سنة 1799، فكانت فرصة لتصدير الثورة إلى دول أخرى رغم الخلاف البين والشديد بين فرنسا والمجتمعات الأخرى، ما أدى إلى فشل الحملة الفرنسية على الشرق، وانسحاب القوات الفرنسية سنة 1801 وخاصة بعد مقتل الجنرال كليبر، وهو ما نجح فيه سليمان الحلبي رغم القبض عليه والانتقام منه وتعذيبه بشتى طرق التعذيب الوحشية، ثم إعدامه، وقد بدأت الرواية عالمها -قبل الصفري- بمشهد التعذيب الرهيب، وكأنه لحظة المخاض التي تنبئ بميلاد عمل روائي كبير سنطالعه.
لغة فحماوي العربية البسيطة والسهلة والكاشفة والموثقة أو المتشحة بالمعلومات والأرقام والتواريخ والوصف، تسهم في سرعة الإيقاع
“كان وهج النار المتدفق بلهب هادر يحرق يد سليمان الحلبي اليمنى المثبتة بجنزير نحاسي يكبلها بعدة لفات على منصة حديدية ثقيلة تقف بارتفاع صاحبها، والنار تشوي لحمه الذي صار يحمر ويسود وينقبض ويتلوى متساقطا عن بقايا أصابع يده البيضاء على شكل كتل صغيرة متفحمة، إلى أن سقطت كل هذه النتف المحروقة على تراب تل العقارب، بينما يقف القضاة وكبار الضباط الفرنسيين وضباط الأمن والحراس والعساكر ورجال الدين الأزهريون والمسيحيون والصحافيون، والمؤرخون، يتأملونه بعيون جاحظة”.
ولعل البداية بهذا المشهد الرهيب تجعل القارئ متشوقا لمعرفة الجرم الذي ارتكبه الفتى سليمان صاحب الثلاثة وعشرين ربيعا، والأكثر من ذلك كيف ارتكبه؟ وهو فتى أو شاب لا يملك سوى خنجره الذي اشتراه من غزة وخبأه في ملابسه، في مقابل البنادق والمدافع والخيول وآلاف العساكر والضباط وأصحاب الخبرة والسطوة من الجيش الفرنسي.
هذه البداية المأساوية بداية مشوقة تجعل القارئ يلهث وراء السطور ليعرف المزيد من الأحداث والتفاصيل، ولعل لغة فحماوي العربية البسيطة والسهلة والكاشفة والموثقة أو المتشحة بالمعلومات والأرقام والتواريخ والوصف، تسهم في سرعة الإيقاع وفي جذب القارئ ليغوص في العمل دون عقبات أو صخور لغوية أو مشهدية مقحمة في طريق القراءة، ما يجعله يتوحد أكثر مع العمل، ويتعاطف أكثر مع أبطاله من الوطنيين المخلصين.
أهدى صبحي فحماوي روايته “إلى نابليون بونابرت صاحب الجرائم الكبرى، والهزائم المتلاحقة في فلسطين ومصر وروسيا وأخيرا واترلو ليموت معتقلا في جزيرة سانت هيلانة”.
وعلى الرغم من عدم ذكر سليمان الحلبي في عتبة الإهداء، فإن المقارنة موجودة عن طريق الإيحاء؛ فإذا كان نابليون قد هُزم ومات معتقلا في سانت هيلانة، وهي جزيرة تقع في المحيط الأطلسي تابعة لبريطانيا (العدو التقليدي لفرنسا في تلك الحقبة) نفي إليها نابليون بونابرت منذ عام 1815 حتى وفاته 1821، فإن سليمان الحلبي حقق انتصارا كبيرا للعرب والمسلمين بقتله كليبر على الرغم من إعدامه بعد ذلك. إنه حقق هدفه بكل بساطة ويسر من خلال الخنجر الذي اشتراه من غزة، بينما نابليون بقوته وجبروته وسلاحه وعتاده يفشل في تحقيق هدفه.
كتابة التاريخ والدراما
كشف الفصل الصفري عن عقيدة الكاتب أو تصوراته وأسباب كتابته لحكاية سليمان الحلبي، فقال معرجا على آراء أدبية سبق أن أدلى بها، “كما سبق وأن كتبت أنني لا أكتب ما أعرف، ولكنني أكتب لأعرف، فلقد رحت أقرأ الوثائق والمقالات الصحفية وما نشرته المجلات الشارحة لما حصل مع المناضل الأكبر سليمان الحلبي، ومن ثم الكتب المتعلقة بقضية بطولته المذهلة، وكان أول ما قرأت هو كتاب المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي ‘عجائب الآثار في التراجم والأخبار’، إضافة إلى كتب أخرى كثيرة غير هذا الكتاب. ورحت أرتب الوقائع المذكورة، وأنسج عليها من مخيلتي الأدبية، وأقارن بين ما قرأت”.
ولعل هذه الفقرة تخبرنا بكيفية الاستعداد لكتابة العمل، والدوافع والجهود التي بذلها الكاتب في سبيل الوصول إلى الحقائق وصياغتها في قالب روائي مشوق.
ويكشف فحماوي عن عدم إعجابه بما جاء في كتاب المؤرخ الجبرتي، ويقول “لم أعجب بما كتبه الجبرتي، ليس لأن هذا المؤرخ قادم من عائلة أرستقراطية أو إقطاعية ثرية مسيطرة، تتماهى مع المحتلين، ولا لأن لغته العربية مكسرة، وغاصة بالأخطاء اللغوية الفاضحة، وأقرب إلى العامية منها إلى الفصحى، ولا لأنه مجرد صحافي ينسخ ما يريده الإعلام السائد. ولكن لأنه وصف مقاومة المصريين المتفانية في النضال ضد الاحتلال الفرنسي بطريقة خانعة، وكأنه يقول مع القائلين: معاهم معاهم.. عليهم عليهم. فتارة تجده يصف الفرنسيين بأنهم يجلبون الحضارة لمصر باحتلالهم هذا، وتارة يكتب عن بشاعة الفرنسيين وعن ضربهم لمبنى الجامع الأزهر بالقنابل الثقيلة، ومن ثم دخولهم إلى صحن المسجد الأزهر، مركز الثورة، وهم راكبون خيولهم”.
وعليه فقد قرر صبحي فحماوي أن يكتب التاريخ بطريقة فنية سردية مبتكرة. ويعجب فحماوي من الجبرتي الذي وصف سليمان الحلبي بالقاتل الذي غدر بالجنرال كليبر، وكأن القتيل كليبر جاء يريد الخير لمصر، وكيف أشاد بنزاهة المحكمة التي حاكمت القاتل.
كل هذه العتبات أراها مهمة لتحفيز القارئ وشحذ همته، وتكشف أيضا الموقف المسبق للكاتب إزاء بطل روايته. وقد يعترض البعض على هذا الكشف المبكر لموقف الكاتب من الأحداث، ولكننا أمام شخصية تاريخية معروفة للجميع، ولسنا أمام شخصية يستولدها الكاتب ولا نعرف ملامحها إلا من خلال العمل، ومع ذلك فقد رسم لنا الكاتب أبعاد هذه الشخصية منذ الصغر والتي يجهلها معظمنا.
نحن نعرف ونعلم وعلى يقين تاريخي أن سليمان الحلبي هو الذي قتل كليبر، ولكن لماذا وكيف؟ فإن معظمنا ربما يجهل ذلك.
وتسبر الرواية أغوار تلك الشخصية الفريدة وتحولاتها منذ صغرها حتى لحظة إعدامها، مثلما سبرت قصة “سره الباتع” والمسلسل التلفزيوني أغوار شخصية حامد الذي قتل بدوره القائد الفرنسي بيلو، والفارق أن سليمان لم يتحول -في رواية فحماوي- إلى شخصية أسطورية بنيت لها الأضرحة والمقامات التي تُشد الرحال إليها وإلى أماكن مختلفة، بعد أن تم تفريق جسده في عدد من القرى المصرية، وأطلق عليه اسم السلطان حامد، فهو صاحب قوة خارقة، بينما لم تتحدث رواية فحماوي عن أسطرة سليمان الحلبي، أي تحويله إلى أسطورة بعد إعدامه، ربما بسبب ما كتبه الجبرتي في كتابه، والانطباع السلبي الذي تم تصديره إلى بعض الناس رغم أن فعلته كانت سببا من أسباب جلاء الحملة الفرنسية عن مصر، وعن الشرق عموما، وربما لأن الفرنسيين -وحتى الآن- يصفونه بالخائن.

في “سره الباتع” يقول روجيه لصديقه روان في آخر رسالة له من مصر “صحيح أن شمعتي لن تكون شيئا بجوار ما يحظى به السلطان من تكريم وتقديس؛ فما هي سوى شمعة واحدة، شمعة من مئات الشموع التي أضاءت وستظل تضيء مئات أضرحته، مئات الليالي، ومن يدري، ربما مئات السنين! ولكن لا تعجب إذا أقدمت على هذا اليوم أو غدا أو في مساء قريب، فإني أحس بنفسي سائرا بلا إرادة إلى هذا المصري، أحس بمقاومتي تتلاشى وتنتهي”.
إنها قوة مصر الروحية التي تجذب الأجانب إليها، فيقعون في حبائلها، وقد تجسدت -في هذه القصة- في حكاية السلطان حامد.
ولعلنا نستطيع أن نطرح سؤالا أراه مهما: هل لو كان سليمان محمد ونس الأمين -المشهور بسليمان الحلبي- مصريا، لتحول إلى أسطورة مثله في ذلك مثل حامد الذي كان يعمل فلاحا في الأرض المصرية بقرية شطانوف؟ أم أن المواصفات الجسدية التي كان عليها سليمان الحلبي لم تستطع صناعة الأسطورة حوله؟ لقد كان شابا وسيما طويلا عريض الكتفين، قوي البنية، ولكنه لم يكن في بنية حامد ولا قوته الخارقة ذات المواصفات التي صنعها يوسف إدريس من أجل أسطرتها بعد ذلك، وربما كانت لدى حامد قوة روحية غامضة اجتذبت إليه الآلاف، لا توجد في سليمان الحلبي. لقد التف الآلاف من الفلاحين -في قريته والقرى المجاورة- حول حامد وأسهموا في تحويله إلى رمز وأسطورة، بينما لم نر أحدا يلتف حول سليمان الحلبي مع أن حكايته أكثر واقعية من حكاية حامد، حتى عندما أسر لزملائه المقربين بأنه سيقتل كليبر، لم يأخذوا الأمر على محمل الجد، وسخروا منه، فلم يجد له نصيرا في القاهرة.
هل عدم اكتمال قصة حب نشأت بين سليمان الحلبي وأسمهان الحلواني منذ الصغر، كان لها تأثير سلبي في حياة الحلبي، على عكس قصة الحب التي قدمها خالد يوسف -وليس يوسف إدريس لأنها ليست في القصة المكتوبة- بين صافية وحامد واستمرت إلى النهاية وأسهمت في أسطرة تلك الشخصية؟ هل قصة الحب التي عاشها حامد هي التي أضفت عليه شيئا من القوة الروحية؟
وإذا كانت رواية “خنجر سليمان” قد أوضحت ما أحدثته مدافع نابليون في أنف أبي الهول فكسرته وشوهته وحطمته فإن أمير الشعراء أحمد شوقي يقول في “شيطان بنتاءور” على لسان الهدهد “أيتها الحجارة الخالدة، اسخري من هؤلاء، كما سخرت من قمبيز وخيله، واستهزئي بهم كما استهزأت بنابليون وجنوده”.
ويقصد شوقي بلفظ الإشارة “هؤلاء” السياح الذين يرتعون حوالي الأثر، وينزلون عن الإبل ويركبون، في زهو وخيلاء، ويعيثون في القبور بعد عبثهم بالجثث المقبورة. إنهم يبحثون عن الآثار المصرية التي جذبتهم وهوستهم، فصارت مصر ولعا فرنسيا.
ولعلنا نستفيد من إحدى عبارات شوقي في “شيطان بنتاءور” بالمحادثة التاسعة، والتي تتفق مع ما نحن فيه من أجواء “خنجر سليمان” و”سره الباتع”؛ يقول شوقي على لسان الملك رمسيس “قاوموا الظالم ولا يغرنكم ما ترون من قوته وبأسه؛ فمثله كالأسد: لا يزال يفترس حتى تفترسه نهمته”.
وبالفعل تفترس نهمة الأسدِ الأسدَ نفسه، فيعود نابليون بونابرت (الذي كان في مقام الأسد) إلى فرنسا لوجود مشاكل وقلاقل سياسية هناك قبل أن يهزم في معركة واترلو هزيمة منكرة عام 1815، ويترك قيادة الحملة في مصر لكليبر، وفي الوقت نفسه يعود سليمان الحلبي إلى غزة ويلتقي الشيخ نادر الصباغ صديق والده، الذي يرى أنه لا بد من التصرف لقتل المجرم السفاح كليبر الذي يعيث في مصر تجبرا وظلما وفسادا تجري من تحته أنهار من الدماء. ويقرر الفتى سليمان بعد لقائه بالشيخ نادر الصباغ العودة إلى مصر للانتقام من الفرنسيين وجرائمهم البشعة في شخص كليبر.
سليمان الحلبي يعد في نظر الإدارة الفرنسية مجرما، ولكنه في نظر الشعوب العربية والإسلامية بطل كبير، ومجاهد عظيم
سنرى في هذا الفصل من الرواية عبارات زاعقة تناسب أجواء الرواية المليئة بالقتل والدماء والشر والاغتصاب والإعدامات والدمار. سنلاحظ أنه مع كل طلقة مدفع وكل طلقة بندقية تعلو عبارات التنديد والدعوات المباشرة عالية الصوت، وكأن الراوي أو السارد يقاتل بالعبارة ويقاوم بالكلمة.
كما نلاحظ أن السارد بدأ عملية التمهيد النفسي بسؤال سليمان الحلبي عن الخناجر والسكاكين أثناء زيارته إلى غزة، حيث نقرأ حوارا يدور بين سليمان وعلي (ابن الشيخ نادر الصباغ).
“نحن الغزيين يا صديقي نصنع هذه السيوف والسكاكين والخناجر لنذكي روح المقاومة ضد المحتلين. إنها أقصر الطرق (للوصول إلى قلب المحبوب!) وذلك للتخلص من عدو خطير.. فأنت لو كنت تملك بندقية في حضرة ذلك القائد المجيش العظيم، فلن تستطيع استخدامها لقتل شخصية من هذا النوع، لأنهم سيمسكون بك قبل أن تقترب من الضحية، ولكنك تستطيع إخفاء هذا الخنجر داخل ملابسك، والتسلل بصمت إلى حيث تتواجد الضحية، وتفاجئه بضربة لا ثانية لها.. دعني أتراجع فأقول لك؟ كرر الضربات، للاطمئنان على الختام”.
هنا كانت الفتوى والتصور أو سيناريو عملية قتل الجنرال كليبر، والتمهيد النفسي لما سيحدث بعد ذلك. وقد أمضى سليمان ستة أشهر في غزة يتدرب فيها على استعمال الخنجر، وطعن خصمه اللدود، وخصم كل المصريين والعرب، في مقتل، ثم عاد إلى القاهرة لينفذ حكمه في 14 يونيو سنة 1800.
سر الخجر
الآن أتوقف أمام معلومة وردت في متن الرواية، تتعلق بمكبر الصوت الذي ورد في الصفحة 115 واستخدمه نابليون بونابرت في خطبته لجنوده وفيالقه في بداية الحملة سنة 1798، وأشير إلى أن ألكسندر غراهام بيل اخترع أول مكبر صوت في سنة 1876، وفي سنة 1878 قام الألماني إرنست ڤرنر فن زيمنس باختراع النوع المحسن من مكبر الصوت.
أيضا ورد في ثنايا الرواية ذكر المدرجات الجامعية والقاعات في جامعة الأزهر، بينما يدلنا موقع جامعة الأزهر في شبكة الإنترنت على أن حلقات التدريس كانت هي طريقة وأساس الدراسة بالأزهر (جامعا وجامعة)، حيث يجلس الأستاذ ليقرأ درسه أمام تلاميذه والمستمعين إليه الذين يتحلقون حوله، كذلك يجلس الفقهاء في المكان المخصص لهم من أروقته، وغالبا ما يكون هذا الدرس عند أحد أعمدة الجامع في المواعيد المتفق عليها. وكان إنشاء قرار جامعة الأزهر عام 1920 في حين أن التدريس بدأ بالجامع منذ أكتوبر من عام 975 (365 هـ) عندما جلس قاضي القضاة أبو الحسن بن النعمان المغربي في أول حلقة علمية تعليمية، ثم توالت حلقات العلم بعد ذلك.
كما ذكرت الرواية سيارات الإسعاف فقالت في صفحتي 238 و239 بعد مقتل كليبر “وبينما انطلقت سيارات الإسعاف بزواميرها المدوية تتقدم من مكان الحادث، لتجد نفسها تحمله جثة هامدة ..”، بينما يعود تاريخ أقدم سيارة إسعاف في مصر إلى عام 1902، وتوجد بمتحف الإسعاف في الإسكندرية، وكانت ذات عجلات خشبية وغير مزودة بزوامير. ويبدو أن الرواية تتحدث عن سيارة إسعاف عصرية كالتي نراها الآن في شوارعنا وطرقاتنا.
أخيرا أتوقف عند مآلات بندقية حامد، وخنجر سليمان الذي حملت الرواية اسمه، فمثلما تم تداول بندقية السلطان حامد في أكثر من مكان، والتي حررها من الجنرال فصارت في قبضته، وكانت تدفن معه، كلما انتقلت جثته، إلى أن اكتشفها أحد أبناء السلطان، وسلمها للشرطة المصرية، شاهدنا في رواية فحماوي كيف تم تداول الخنجر أداة قتل كليبر إلى أن استقر في متحف الإنسان بقصر شايوه في باريس، ومعه جمجمة سليمان وتحتها لافتة “المجرم”.
سليمان الحلبي يعد في نظر الإدارة الفرنسية مجرما، ولكنه في نظر الشعوب العربية والإسلامية بطل كبير، ومجاهد عظيم، وآن الأوان لأن تفهم الإدارة الفرنسية أن قتل كليبر لم يكن إجراما، وإنما هو دفاع عن الشعب المصري والعربي أمام إجرامهم هم. بل عليهم تعويض ما تبقى من عائلة سليمان الحلبي إن كان لها وجود حتى الآن، وتعويض الشعب المصري عن كل الجرم والتعذيب والقتل وسفك دماء هذا الشعب أثناء وجود الحملة الفرنسية 1798 – 1801. وبذلك يصبح لخنجر سليمان سر باتع، مثلما كان لبندقية السلطان حامد سرها الباتع.
ويبدو أن عدوى اغتيال الطلبة للحكام قد انتقلت إلى أوروبا بعدها، فقد قرأنا عن اغتيال الطالب الصربي جافريلو برينسيب صاحب التسعة عشرة عاما، لولي عهد النمسا فرانز فرديناند وزوجته صوفي في البوسنة والهرسك أثناء زيارة الأخيرين إليها، مما تسبب في إعلان النمسا الحرب على صربيا في اليوم نفسه 28 يونيو من عام 1914، فكانت شرارة الحرب العالمية الأولى التي استمرت لأكثر من أربع سنوات وتسببت في سقوط الملايين من القتلى والجرحى.