خطيئة بوتين الأكبر.. "حرب الوجود" كمقامرة تاريخية أخيرة

الافتراض القائل إن روسيا لا تستطيع أن تُهزم، وإنها سوف تنهار وتتفكك إذا هُزمت في أوكرانيا، افتراض زائف تماما بالمعنى التاريخي. كما أنه زائف أكثر بالمعنى المتعلق بموازين القوى.
كل دول أوروبا الشرقية، ابتداء من دول البلقان الثلاث، لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، نشأت كثمرة حروب وصراعات، خسرتها الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية السوفياتية على حد سواء.
برغم كل تلك الهزائم بقيت روسيا قادرة على البقاء دولة موحدة. ونفوذ موسكو في الأقاليم الشرقية التي تدور في فلكها، لم يتأثر إلا في حدود ضيقة.
التاريخ يقول إن روسيا حاربت في أوروبا أكثر مما حاربت شرقا أو جنوبا. وكلما حققت مكسبا في أوروبا، عادت لتخسره في وقت لاحق.
◙ الرئيس بوتين صنع حربا ظن أنه سوف يكسبها بسهولة. فلما خسر جولتها الأولى، صنع حربا أخرى أوسع نطاقا. وما كان حربا ثنائية، بين روسيا وأوكرانيا، أصبح حربا هجينة بين روسيا والحلف الأطلسي
الطريقة التي حاول بها الرئيس فلاديمير بوتين اجتياح كييف إذا كانت مجرد تكرار لاجتياح براغ عام 1968، فقد تخلصت براغ من النفوذ الروسي من قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. تحولت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين مستقلتين في ما بعد، إلا أنهما تحررتا من النفوذ الروسي، مرة وإلى الأبد.
ارتباط دول البلطيق بالحلف الأطلسي، لم يكن صفعة على وجه تطلعات الهيمنة الروسية، بل تذكارا بالحروب التي خسرتها موسكو هناك. وسعي فنلندا والسويد الراهن للانتساب للحلف تذكار مماثل بالحروب نفسها، ومن ضمنها تلك التي تجرّع فيها جوزيف ستالين كأس الهزيمة في فنلندا.
روسيا هُزمت في أفغانستان. وهي لم تنتصر في سوريا. أورثت هذا البلد خرابا، ولم تجد سبيلا لإعادة بناء ما هدمت، وظل النظام الذي دافعت عنه ضعيفا وبحاجة إلى سند خارجي آخر وفّرته إيران، قبل أن تجد روسيا حاجة لتلقي المساعدة منها في أوكرانيا.
تراهن روسيا الآن على أن حربا طويلة الأمد يمكن أن تستنزف قدرات أوروبا والولايات المتحدة على الاستمرار في دعم أوكرانيا، ما يجعلها ترضخ لقبول شروط موسكو باقتطاع إقليم دونباس، فضلا عن الإقرار النهائي بضم القرم، لتكسب من بعد ذلك نظاما عالميا جديدا على مقاس النفوذ الروسي.
ولكن هذا مجرد وهم حسابي، من قبل أن يكون وهما سياسيا أو تاريخيا. ليس لسبب يتعلق بموازين القدرات على التحمل، وإنما لأن الرئيس بوتين اضطر لكي يبرّر حربا، بأن صنع حربا أخرى لا تمتلك موازينه الخاصة أي فرصة أمامها.
تمتلك روسيا الكثير من الموارد التي تكفل لها إنتاج ما لا نهاية له من القذائف والصواريخ. تمتلك القدرة على تعويض كل ما خسرته من الدبابات والآليات المدرعة. وهي لا تواجه مشكلة في ما يتعلق بالذخائر. أي أنها تستطيع أن تصب جحيما لا يتوقف على أوكرانيا. كما أن لديها احتياطات مالية تكفي لتسديد تكاليف الحرب لما لا يقل عن خمس سنوات أخرى. وبفضل الروابط الاقتصادية المتنامية شرقا، مع الصين والهند وغيرهما، فإن هذه الاحتياطات سوف تظل تتغذى بالمزيد.
الرئيس بوتين، والنخبة المحيطة به، يؤمن تماما بأنه لا سبيل للخسارة. وأن الطرف الآخر هو الذي يجب أن يُهزم، لأن روسيا سوف تنهار دون ذلك. مشاعر الكرامة الوطنية هي التي تغذي الدوافع من أجل أن تبقى روسيا على قيد الوجود. وهي بهذا المعنى، إنما تقاتل دفاعا عن وجودها بالذات. والحرب الهجينة إنما هي حرب ضد روسيا، وليست حربا من أجل أوكرانيا.
◙ روسيا حاربت في أوروبا أكثر مما حاربت شرقا أو جنوبا. وكلما حققت مكسبا في أوروبا، عادت لتخسره في وقت لاحق
الرئيس بوتين يغذي نفسه ونخبته بهذا الاعتقاد. وشيئا فشيئا، فإنه أصبح اعتقادا مقنعا لدى الطرف الآخر. أي أن التحالف الغربي بدأ بقبول الحرب في أوكرانيا كحرب وجود بالنسبة إليه أيضا.
تستطيع روسيا أن تجنّد ما لا يقل عن مليون جندي لهذه الحرب. نصفهم في الخنادق الآن بالفعل. وإذا اقتضت الضرورة، فإن هذا العدد يمكن أن يصل إلى خمسة ملايين جندي. وبما أن وجود روسيا هو الذي في الميزان، فإن تجنيد 20 مليون روسي في اقتصاد الحرب وعلى جبهات القتال، أمر ممكن أيضا. روسيا جندت في الحرب العالمية الثانية أكثر من هذا العدد. وخسرت 25 مليون نسمة من أجل أن تنتصر. ويمكن أن تخسر 25 مليونا آخرين. لا توجد مشكلة بالنسبة إلى بوتين. كل هذا ممكن. لاسيما وأنه لا يتعرض لتهديد داخلي. كما أن النخبة المحيطة به، مقتنعة أيضا بفكرة أن الحرب في أوكرانيا هي حرب وجود. وهي تلتف من حوله خوفا من انهيار روسيا وتمزقها.
ما هو غير منظور بالنسبة إلى هذه النظرية، هو أن الطرف الآخر، إذا أخذ بها وعمل بموجبها، صارت هزيمة روسيا خيارا وحيدا لا يملك خيارا سواه. لاسيما وأن روسيا لا تخفي أنها تحارب النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، بكل معانيه، الأمنية والاقتصادية والإستراتيجية.
المسؤولون الغربيون الذين باتوا يؤكدون، المرة تلو الأخرى، أنهم سوف يواصلون دعم أوكرانيا طالما اقتضى الأمر، وأنهم لن يفرضوا عليها سلاما لا تختاره، وأنه لا سلام من دون عودة كل الأراضي التي تحتلها روسيا إلى السيادة الأوكرانية، إنما يؤكدون بذلك قبولهم لفكرة أنها أصبحت حرب وجود بالنسبة إليهم فعلا.
إذا كان ذلك كذلك، فماذا يوجد في كفة الميزان الأخرى؟
هذه الحرب، بعد عام كامل من اندلاعها، لم تكلف التحالف الغربي، أكثر من نحو 60 مليار دولار. قدمت الولايات المتحدة 45 مليارا منها، فيما قدمت أوروبا نحو 15 مليارا. أي أنها لا تزال أدنى بكثير من تريليوني دولار خسرتها الولايات المتحدة في حرب واحدة في العراق. وخرجت منها بما لا يزيد عن أضرار جانبية!
لكي يبرّر الرئيس بوتين حربا كانت على مستوى إستراتيجي أدنى، فقد حولها حرب وجود واندفع بها إلى الأمام ليجعل منها مشروعا لحرب كونية، لا لشيء إلا لأنه لم يقبل هزيمة بمستواها الأدنى. وقد كانت تلك هي خطيئته الأكبر. لأنها هي التي أملت على الطرف الآخر أن يرفع الحرب إلى المصاف الذي اختاره بوتين. وهو مصاف مقامرة تاريخية، لم يعد من الغريب معها، أن يلوّح بوتين بأسلحته النووية. وكأنه يريد القول، إنه مستعد لرفعها إلى مصاف أعلى فأعلى.
الموازين هنا ليست في صالحه، لا على المصاف الوجودي، ولا على المصاف الأعلى.
◙ المسؤولون الغربيون الذين باتوا يؤكدون، المرة تلو الأخرى، أنهم سوف يواصلون دعم أوكرانيا طالما اقتضى الأمر، إنما يؤكدون بذلك قبولهم لفكرة أنها أصبحت حرب وجود بالنسبة إليهم فعلا
ميزانية الدفاع الأميركية لهذا العام تبلغ 858 مليار دولار، أي ستة أضعاف الميزانية الدفاعية الروسية البالغة 143 مليار دولار. وعدد سكان الولايات المتحدة أكثر من ضعفي عدد سكان روسيا. وناتجها الإجمالي أكبر من الناتج الإجمالي الروسي بـ14 ضعفا. وتمتلك من الأسلحة والمعدات ذات التقنيات العالية، والتي يمكن تزويد أوكرانيا بها من دون حاجة إلى طائرات مقاتلة ولا صواريخ بعيدة المدى، الكثير مما لا تملكه روسيا. صواريخ هيمارس، على سبيل المثال، التي تضرب أهدافها بتقنية “جي.بي.أس” لتحديد المواقع، تجعل كل مدافع روسيا مجرد أضحوكة تكنولوجية، من عهد الحرب العالمية الأولى.
هذا عن الولايات المتحدة وحدها، من دون حلفائها الآخرين!
لقد صنع الرئيس بوتين حربا ظن أنه سوف يكسبها بسهولة. فلما خسر جولتها الأولى، صنع حربا أخرى أوسع نطاقا. وما كان حربا ثنائية، بين روسيا وأوكرانيا، أصبح حربا هجينة بين روسيا والحلف الأطلسي. وما كان حربا كالحرب الروسية – البولندية (1654-1667) التي خسرها القيصر، صار حربا على النظام العالمي برمته، ويريد القيصر الروسي الجديد أن يكسبها.
حرب الوجود التي صنعها الرئيس بوتين، صارت خيارا معقولا وتحدّيا مقبولا. حتى أصبح معقولا في المتداول الغربي، أن تُهزم روسيا، لأن بوتين نفسه لم يترك لها خيارا آخر.