خطاب العلامة البصرية يتنقل من أدب الأذن إلى أدب العين

باحثون تونسيون يقدمون قراءات تأويلية للأدب والمسرح والإعلانات والصور المتحركة.
الثلاثاء 2023/11/21
بلاغة الصورة تكشف فظاعة الحرب

نطلق على هذا العصر مسمى «عصر الصورة» التي تفوقت على الألسنة كأداة تواصل فعالة، وتجاوزت الحدود الثقافية الفاصلة بين الشعوب لتقدم خطابا قادرا على التأثير بقوة وعمق. ورغم ابتعاد العرب عن الصورة وعوالمها لأسباب مختلفة ظلت للصورة جذورها في المدونة الأدبية والفنية العربية، وهذا ما يحلله باحثون تونسيون في الملتقى الدولي “خطاب العلامة البصرية”.

ريم غانم

يشهد حاضرنا التواصلي تنويعا لتقنيات الخطاب وآليات تشكيله (قراءته وتأويله)، إذ لم تعد اللغة جوهره وامتداده بل انفتح على عالم العلامات غير اللغوية، لعل أبرزها العلامة البصرية التي تعاظم الاهتمام بها وبخصائصها ووظائفها في واقعنا أمام الانتشار السريع للصورة وعصر الصورة.

ولأنها تمثل تمثلا للعالم بشكله المختزل، فقد أصبحت “العلامة البصرية” خطابا مخصوصا وباتت مدار اهتمام نظريات ومناهج مختلفة كالإنشائية والسيميولوجيا والفينومينولوجيا وعلم النفس والسوسيولوجيا وفنون التصوير والتصميم وعلوم التواصل وغيرها.

خطاب العلامة البصرية

العرب مازالوا يعانون من حرج ثقافي إزاء ضروب من الفن البصري رغم ادعائهم الانخراط في عصر الصورة

إن تفكيك مظاهر حوارية الخطاب الأدبي اللغوي مع سائر أنواع الخطابات الإبداعية الأخرى بات هدفا لمخبر بحث “دراسات إنشائية” بكلية الآداب سوسة اهتماما بوجوه الحوارية الخطابية بين العلامتين “اللغوية” و”البصرية” وجعلها المشغل الأساسي في الملتقى الدولي “خطاب العلامة البصرية”، وقد امتدت الجلسات فيه على يومين كاملين قدمت فيهما عشرون محاضرة باللغة العربية وسبع مداخلات باللغة الفرنسية، حاضر فيها أساتذة وباحثون من تونس والجزائر وسلطنة عمان والمغرب.

وقد ارتكز التناول على مجالات إبداعية مختلفة مثل النص الديني والنص الشعري القديم والمعاصر ونصوص السيرة والرواية والخطاب الإشهاري (الإعلانات) والصور المتحركة والمسرح والحضارة واللسانيات.

ولعل المطلب الأساسي لمختلف هذه المداخلات ليس صور الدوال التي تتشكل في أذهان السامعين والقراء، أو الصور الأدبية التي تعول على معنى الكلمة ودلالاتها فحسب، بل الصور المادية للكلمة ذاتها وسائر العلامات التي يتلقاها المخاطب عبر حاسة العين لينتقل من معرفة مسموعة إلى أخرى مرئية.

وأكد العميد الأكاديمي كمال جرفال أن الملتقى يتزامن مع حرب إبادة يشنها الكيان الصهيوني على سكان غزة العزل وهو ما يدفعنا كنخب مفكرة وجامعيين إلى استنهاض الهمم والتحرك من أجل دعم أكبر للقضية الفلسطينية، ووجه دعوة إلى الجامعيين العرب من أجل المناصرة المطلقة لإخواننا الفلسطينيين.

وأكد الأكاديمي رضا بن حميد مدير الملتقى ورئيس مخبر البحث أن اللحظة الراهنة تدعونا إلى الالتفاف حول القضية الأم، القضية الفلسطينية خاصة وأن غزة الواقعة تحت القصف الجنوني للآلة العسكرية الإسرائيلية تعيش حرب الصورة من خلال سياسة الحجب والقطع المتعمد لوسائل الاتصال ومنع الصور الإخبارية من الوصول إلى أنظار العالم حتى تطمس جرائم الحرب الفظيعة.

"لعلامة البصرية" أصبحت خطابا مخصوصا وباتت مدار اهتمام نظريات ومناهج مختلفة كالإنشائية والسيميولوجيا والفينومينولوجيا وغيرها

وفي الإطار ذاته، اعتبر الباحث رمضان العوري بلاغة الصورة كاشفة عن فظاعة الحرب الصهيونية على غزة من خلال قراءته لصورة التقطتها عدسة أحد المصورين تتمثل في دمية قماش ملقاة على قارعة الركام في مشهدية مأساوية أبانت مشهد الأطفال الفلسطينيين المشردين في الخيام، وما تمزق من الدمية ليس إلا إحالة على القصف العنيف الذي مزق صاحبتها وعائلتها وحولهما إلى أشلاء تحت الأنقاض، لتكون بذلك الصورة إحالة على تقتيل البراءة والإبادة الجماعية للبشر والأشياء والحجر.

ونهضت مداخلات مختلفة على التملي في علاقة الأدب (شعرا ونثرا) بالصورة، ورصدت اهتمام النقد الأدبي بالعلامة اللغوية والتصويرية في الخبر. فانكفأ الأكاديمي حمدي عبيد على البحث في العلاقة بين الأبنية البصرية والأبنية الدلالية في أخبار الحكام والملوك والزهاد، منطلقا من الإقرار بعجز المقاربات التفسيرية عن تبني الطابع المركب في الشخصيات السياسية وعدم القدرة على تبين ملامح جسدهم السياسي الذي لا يظهر إلا في العلامات وبالعلامات التي تزينه لتستر عريه.

ولهذا الجسد أنظمة دلالية بصرية ذات شفرات عيانية تداخل العبارة اللسانية لتجعل بصرنا حديدا فلا يرى من الملوك إلا القوة والبأس. ولا يمكن للعبارة أن تنهض في كل ذلك بدور الحمل على الإبصار إلا في ضوء سياسة العيان، أي ما هو مرئي.

أما في المدونة الشعرية القديمة، فقد اشتغل الباحث ياسين الزواري على مقاربة العمى والبصيرة كقراءة في الصورة البصرية لدى بشار بن برد، وانطلق من اعتبار العمى فقدانا للبصر، أما البصيرة فهي تعويض لهذا الفقدان، وحاد بمقاربته عن الاهتمام بالصورة الشعرية في قصائد بشار بن برد، بل تساءل عن علاقة البصر بتكوين الصورة البصرية عند الشاعر الذي عمي جنينا ورغم ذلك فقد سحرت الصور البصرية في شعره ألباب النقاد لاكتمالها وخلوها مما يشير إلى عمى صاحبها. وقد قال عنه الأصفهاني “كان يشبه الأشياء بعضها ببعض في شعره فيأتي بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله”.

وأثبت الزواري أن بشار بن برد قد استند إلى نظرية المواضع لبناء تجربته وكذلك إلى ذكائه وما يتوفر عليه ذهنه من خيال استعاض به عن الإدراك البصري.

اللغة البصرية اليوم هي المهيمنة ما دام الطريق إلى قلوبنا وعقولنا يمر عبر عيوننا وما نراه أشد تأثيرا

ولعل البحث في علاقة العلامة البصرية بكل ما هو شعري قد تجاوز المدونة القديمة ليطال الشعر الحديث، لذلك فقد انعقدت مداخلة الأكاديمي حسين العوري على تتبع تجليات اللغة البصرية في القصيدة التونسية المعاصرة، واعتبر أن هذه اللغة هي نظام في التواصل عماده العناصر المرئية.

وأقر العوري بهيمنة اللغة البصرية اليوم ما دام الطريق إلى قلوبنا وعقولنا يمر عبر عيوننا، وما نراه أشد تأثيرا مما نسمعه أو نقرأه. ولعل قلب المسموع مرئيا هو عنوان الشعرية المبدعة. وأكد المحاضر أن القصيدة التونسية على غرار القصيدة العربية تزخر بالكثير من الظواهر الدالة على مواكبة منشئيها لمستجدات الرؤى الجمالية تطويرا لأشكال البناء وفتحا لمسالك جديدة في طرائق إنتاج المعنى.

وفي الإطار ذاته اشتغل الباحث أشرف القرقني بالنظر في مفهوم الإيقاع البصري في الشعر الحديث استنادا إلى إنشائية الإيقاع وذلك من خلال وصله بسائر عناصر الإيقاع الأخرى ومستوياته التي تعمل في اتصال وثيق وعلى نحو نسقي ضمن وحدة الخطاب.

وينطلق الباحث من فرضية أن الصفحة بما فيها من سواد وبياض وعلامات تنقيط وغيرها إنما تمثل عرضا مشهديا لممارسة لغوية متجذرة في عملية التلفظ. وينبغي على الباحث استقراؤها من خلال تحليل الملفوظ وأنحاء التلفظ في الآن ذاته. وقد اشتغل الباحث على نماذج من شعر التفعيلة عند سعدي يوسف ومحمود درويش وقصيدة النثر عند سركون بولص.

وفي مقاربة استندت إلى البحث في الصور الطوبوغرافية ذات الصلة بالطباعة انكفأت محاضرة الأكاديمي محمد المعز جعفورة باحثة في تحول المنوال الخطي قديما “من أدب الأذن إلى أدب العين” في ديوان “إرادة الحياة” لأبي القاسم الشابي.

ويتجسد ذلك من خلال الإجراءات التصويرية ذات العلاقة بالصور الطوبوغرافية التي اعتمدها الشاعر في تنويعه لارتسام البيت الشعري على بياض الورقة وتحويله إلى أشكال تصويرية مرئية ترى بالعين وتسمع بالأذن بعد أن فجر الشابي القصيدة وجعل ألفاظها تتناثر على فضاء الصفحة بحثا عن صيغة جديدة للقول الشعري ذات دلالة عميقة.

الرسم بالكلمات

الخطابات الإبداعية الإنسانية قد انزاحت بطرق مختلفة من إمبراطورية اللغة إلى سطوة العلامة البصرية

ضمن ما وسمه بثنائية الجميل والنافع، كانت مداخلة الباحث رضا الأبيض حول تصورنا للعلامة البصرية في حقبة تأسيسه، ولكنها ألقت بظلالها وأثرت تأثيرا كبيرا، إذ مازلنا نعاني من حرج ثقافي إزاء ضروب من الفن البصري إلى حد اللحظة المعاصرة رغم قولنا بأننا منخرطون في عصر الصورة. ومأتى هذا الحرج اعتبارات ثقافية وعقائدية تتمثل في الفصل بين المجرد والمجسم وتفضيل الروحي على الحسي وتحريم تصوير الأحياء رغم تطور علم البصريات منذ القرون الهجرية الأولى ورغم احتفائنا الكبير بالتصوير اللغوي شعرا ونثرا.

وقد أقر المحاضر بانتحاء أغلب الرسامين مناحي المجرد والتعبيري مقابل البعد عن الفن التصويري التجسيمي فأقصيت بعض الفنون التصورية مثل البورتريه والنحت والرسم الكلاسيكي في مقابل تطور فن الخط والمنمنمات.

ويمكن أن نتأول ذلك بعدم قدرتنا على الفصل بين التمثال موضوعا للتعبد والتمثال موضوعا فنيا. ويدعو رضا الأبيض إلى ضرورة التفكير في العوائق الإبستيمولوجية حتى نضمن انخراطنا في عصر الصورة منتجين ومبدعين وليس مجرد متلقين سلبيين.

ومن العلامة اللغوية المتشكلة شعرا في قصيدة “يطول العشاء الأخير” لمحمود درويش إلى العلامة البصرية المتجسدة في جدارية “العشاء الأخير” لليوناردو دا فينشي انبثقت مداخلة الأكاديمية شيراز دردور في إطار قراءة سيميولوجية مقارنة بين النص الشعري والجدارية انطلقت من إثبات أن العلامة البصرية تقوم على عنصرين أيقوني وإيحائي بهما تستميز عن سائر الخطابات الأخرى، في حين أن النص اللغوي الفني يظل محكوما باللغة وبالأسلوب حتى في تشكيله لهذا الواقع.

وأثبتت أن فن الرسم يشكل درجة قوية من الأيقنة دون أن يكف عن احتواء علائق منطقية غير أيقونية وأكدت ذلك في دراستها المقارنة لصورة الموت بين قصيدة درويش وجدارية دافنشي.

ويشكل فن الرسم رافدا وجوهرا لمداخلة الأكاديمي عبدالباقي الجريدي التي اهتم فيها بثنائية “اللوحنة” و”الرواية الراسمة” في استجلاء لأنساق تحويل النص السردي إلى لوحة باستعارة تقنيات الرسم من ألوان وأشكال وخطوط في روايتي واسيني الأعرج “شرفات بحر الشمال” و”أشباح القدس”.

واستعرض جملة من اللوحات الفنية لفان غوغ والتي رفدها الكاتب في نصيه مثل لوحة “آكلوا البطاطا” أو “الأذن المقطوعة” ليستعير منها دلالات الحزن والانكسار والهزيمة، منتهيا إلى نجاح الروائي في تعمد هدم الجسور والفواصل بين الفنين.

أما الأستاذة حياة الخياري فقد نظرت في العلامة البصرية بين أدبية النص وإغراءات الخطاب الرقمي في إطار الأدب التفاعلي كنموذج لوظيفية العلامة البصرية. وأكدت أن هذا اللون من الأدب ينهض بالأساس على المكون اللغوي والمكون البصري الصوري جاعلة من قصيدة “الأضداد” لكمال أبوديب سندا لاشتغالها.

وتخلص إلى أن الخطابات الإبداعية الإنسانية قد انزاحت بطرق مختلفة من إمبراطورية اللغة إلى سطوة العلامة البصرية.

13