خزانة أسرار الثقافة المصرية تكرّم جورج البهجوري

التقيته في البحرين رساما والتقيته في القاهرة أكبر من أنه كان وزيرا للثقافة. فاروق حسني هو خزانة أسرار الثقافة المصرية لأنه واحد من أهم صناعها في العصر الحديث. مثقف معاصر. تلك صفة غامضة دفعها حسني إلى الوضوح من خلال إنجازاته في بناء المتاحف والمسارح ودور العرض السينمائي وصالات العرض التشكيلي.
ومثلما فعل كبار وزراء الثقافة في العالم فقد التفت حسني إلى ترميم المباني الأثرية وصيانتها. كانت المباني الثقافية يوم أصبح وزيرا في حالة رثة وغير صالحة للاستعمال أما حين ترك وظيفته فإنه ترك وراءه إرثا ثقافيا سيكون مصدر اعتزاز وفخر للأجيال القادمة. ستشير تلك المباني إليه باعتباره منقذها من الضياع والاندثار.
كدح جمالي هو سياق حياة
حسني صاحب مشروع ثقافي عظيم وقفت ضده الأحزاب كلها، يسارها ويمينها. وقد لا يصدق البعض أن صحافة الحكومة قد اتخذت من ذلك المشروع موقفا سلبيا. ولأن الرجل يؤمن بالحرية مبدأً للعيش والعمل والتفكير فلم يتدخل رسميا لكبت مهاجميه وقمع أصواتهم بل ترك إنجازاته تدافع عنه وتصد الهجمات المناوئة له قبل أن تهاجم مشاريعه التي ستظل بعده قائمة. كان هناك نوع من الصلح الداخلي غلف علاقته بالأشياء وبالآخرين وهو ما تعلمه منذ أن كان صغيرا وهو يتسلق سلالم الوظيفة مسؤولا ثقافيا كبيرا في باريس وروما قبل أن يصبح وزيرا للثقافة لأكثر من عشرين سنة.
حسني صاحب مشروع ثقافي عظيم وقفت ضده الأحزاب كلها، يسارها ويمينها. وقد لا يصدق البعض أن صحافة الحكومة قد اتخذت من ذلك المشروع موقفا سلبيا
ولكن كل ذلك الكدح في الوظيفة العامة لم يؤثر عليه رساما. مَن يرى رسومه في كل مراحل حياته لن يصدق أن الرجل كان يقضي الجزء الأكبر من يومه وهو يفكر في مصير الثقافة في بلد معقد وشائك وواسع ومرتاب ومشبع بنظرية المؤامرة مثل مصر. ظلت رسومه صافية كما لو أنه يرسم لاستدعاء الجمال الخالص من آبار خفية من غير أن يكون معنيا بصنع جمهوره المتواطئ معه. رسوم ظلت حريصة على الإخلاص لعناصرها من غير أن تستجدي عاطفة الجمهور. هي تشبهه من جهة أناقتها وترفعها ونبل عطائها البصري. لقد حظي حسني باحترام وتقدير منظمات ثقافية عالمية وكاد أن يصبح مديرا عاما لمنظمة اليونسكو بسبب المعادلة التي أقامها بين ما هو خاص وعام بحيث كانت مشاريعه الثقافية رفيعة المستوى تبدو كما لو أنها جزء من أحلامه رساما.
لم يكن وزيرا طارئا على الثقافة من جهتين فهو رسام حداثوي يعرف الثقافة من الداخل وهو أيضا موظف ثقافي عريق بسبب تاريخه الوظيفي رفيع المستوى. كانت الثقافة وظيفته وموهبته في الوقت نفسه. لم يكن يرغب إلا في صنع السنتمتر الخاص به في تاريخ الثقافة المصرية المعاصرة. وهي مساحة كبيرة على الخارطة الثقافية المصرية. وهو ما نجح في إنجازه. لقد سبقه إلى ذلك المنصب كثيرون وتبعه كثيرون ولكنهم لم يصلوا إلى الأفق الذي وصل إليه. رسالة حسني سبقته وظلت قائمة حتى بعد تخليه عن المنصب.
مؤسسته الفنية الخاصة هي نتاج خبراته المتراكمة لا باعتباره وزيرا سابقا بل لأنه الفنان الذي يثق بأن كل ما يٌقال عن الانهيار الثقافي هو مجرد حالة عابرة مقارنة بقوة مصر. مؤسسة تعنى بالشباب. تلك محاولة للتشبث بالأمل. حسني حين تلتقيه يعديك بالتفاؤل.
تحرر من عبء الهوية
عام 2019 تأسست مؤسسة فاروق حسني للثقافة والفنون، من أهدافها “تنمية النشاط الثقافي والفني وجميع فروع الإبداع ومكونات الثقافة، خلق مجالات جاذبة للشباب، دعم أصحاب الطاقات الإبداعية الخلاقة والمواهب الأصيلة، إقامة أنشطة ومسابقات فنية وثقافية، احتضان المواهب الشابة وتنمية وصقل مواهبها".
بشكل أولي فقد كانت جوائز الفنون تجسيدا لتلك الأهداف إضافة إلى جائزة الاستحقاق الكبرى التي نالها في الدورة الثالثة 2022 الرسام المصري جورج بهجوري. أما الجوائز فقد توزعت بين اختصاصات خمسة هي "الرسم والنحت والتصوير والعمارة والنقد الفني". وقد تم توزيع جوائز الدورة الثالثة على الفائزين مؤخرا.
جائزة الاستحقاق الكبرى التي منحتها مؤسسة فاروق حسني الفنية للبهجوري تتويج لعمر عاشه وهو يكافح ليثبت جدارته الفنية بعيدا عن رسام الكاركتير الذي كانه، ولتعبيره من خلال الفن عن استقلالية موقفه الوطني
أهمية تلك الجائزة تكمن في أنها تُقدَم إلى الشباب وحدهم. تلك فكرة ضرورية في مقابل شعور الشباب بعزوف المؤسسة الفنية الرسمية عن رعايتهم والاهتمام بتجاربهم. ولأن حسني فنان قبل أن يكون وزيرا فإنه أدرك أن قيام مؤسسته برعاية الشباب من الفنانين سيخلق مسارا فنيا يضع الطاقات الفنية في مكانها الحقيقي ويدعم الحركة الفنية في مصر بما يليق بها بعيدا عن السلوك البيروقراطي المعقد الذي غالبا ما تمارسه المؤسسة الرسمية.
من وجهة نظري النقدية وبالقياس على ما رأيته في القاهرة من أعمال فنية، معظمها من إنجاز الشباب فإن الحركة الفنية في مصر تعيش مرحلة ازدهار استثنائية. فالمصريون تحرروا من العبء الثقيل الذي مثلته الهوية المصرية التي أسرتهم زمنا طويلا. لقد انفتحوا على عالمية تليق بمكانة مصر المتحررة من الماضي.
واحدة من أعظم المهمات التي تقوم بها مؤسسة فاروق حسني تكمن في اقتفاء أثر الحيوية الشبابية في الفن. أما الجوائز فهي محاولة للإشهار عن التجارب الفنية التي تمثل تحولا في الذائقة الجمالية. الفائزون بالجوائز يمثلون زمن الفن المصري الجديد.
وحسني متفائل بطبعه، لذلك فإن جوائزه تأتي تعبيرا عن ذلك التفاؤل. وليس من باب المديح القول إن تفاؤل الرجل هو نوع من الخبرة بما يجري في مصر. فمصر التي لم تعد نائمة هي مصر التي تستعيد موقعها لا في العالم العربي وحده بل في العالم كله.
بهجر في المهجر
العشرات من الفنانين الشباب شاركوا في المسابقة أما الفائزون فهم ثلاثة في كل فرع. وحين يطلع المرء على الأعمال المشاركة يشعر أن مستواها يؤهلها للفوز فما من عمل منها يقع تحت المستوى المتوسط وما من فنان مشارك يمكن أن يُنسب إلى قائمة الفنانين الهواة. كلهم من غير استثناء محترفون. وكل واحد منهم يستحق جائزة وهو ما جعل عمل لجان التحكيم صعبا للغاية. لذلك يمكن القول إن المشاركة في هذه المسابقة حتى من غير فوز هي نوع من الاعتراف الذي يناله الفنان من مؤسسة فنية محترمة. صحيح أن من حق كل فنان مشارك أن يفكر في الفوز غير أن عدم الفوز لا يقف حائلا أمام التمتع بذلك الاعتراف الذي يقدمه إلى المشهد الفني بتقدير.
أعظم المهمات التي تقوم بها مؤسسة فاروق حسني تكمن في اقتفاء أثر الحيوية الشبابية في الفن
الفنان المخضرم جورج بهجوري نال جائزة الاستحقاق الكبرى لسنة 2022 وهو اختيار في محله. بهجوري الذي درس الرسم في القاهرة وباريس وأقام في الثانية زمنا طويلا عمل لسنوات رساما للكاركتير في مجلتي روز اليوسف وصباح الخير ثم تحول إلى رسم اللوحة وأقام معارض كثيرة وألف ورسم كتبا تنتمي إلى أدب اليوميات والرحلات وكان بأسلوبه الساخر العميق بإنسانيته يقف في منطقة خاصة بين رسامي جيله والأجيال اللاحقة.
بهجوري لا يشبه أحدا من الرسامين ولا يشبهه أحد. هو ما تبقى من جيل الفنانين الذين عاشوا كل مراحل الحياة المصرية في العصر الحديث بازدهارها وأفولها، بنكستها وانتصارها، بفقرها وغناها. وهو ما عبر عنه في كتابه الشهير "بهجر في المهجر".
تعد جائزة الاستحقاق الكبرى التي قدمتها له مؤسسة فاروق حسني الفنية تتويجا لعمر عاشه وهو يكافح في اتجاهين. اتجاه سعى من خلاله لأن يثبت جدارته الفنية بعيدا عن رسام الكاركتير الذي كانه واتجاه عبر من خلاله عن استقلالية موقفه الوطني وتمسكه بالحرية أسلوب حياة.