خروج الحوار الوطني عن الحياد يقلل مكتسبات النظام المصري

القاهرة - أظهرت التحركات الأخيرة للحوار الوطني في مصر حجم التماهي مع الحكومة في ملفات جماهيرية تتطلب من مجلسه أن يقف على مسافة واحدة من كل الأطراف، ما أثر على صورته في الشارع، وبدأ البعض يضعه في خانة واحدة مع الحكومة، بما يتناقض مع دوره في تجميع القوى الوطنية تحت مظلة واحدة.
واستبقت الحوار جلسة وزير التموين شريف فاروق أمام مجلس النواب الاثنين، للحديث عن التحول من الدعم العيني إلى النقدي بإظهار مزايا الخطوة وكيف ستخفض معدلات الفقر وتحسن المستوى المعيشي للبسطاء، بينما أحالت الحكومة الملف إلى الحوار لمناقشته وإبداء الرأي واتخاذ القرار النهائي.
وبنفس طريقة أحزاب الموالاة، بالغ البعض من أعضاء مجلس أمناء الحوار في إبراز جهود الحكومة لحماية البسطاء ومحدودي الدخل من موجات الغلاء، وسوّقوا لمزايا الدعم النقدي، قبل أن يُطرح الملف على الطاولة بمشاركة قوى سياسية وخبراء اقتصاد، ما بدا كأنه يقطع الطريق على الأصوات المعارضة لرفض تنفيذ الفكرة.
وثمة شعور بين شرائح مجتمعية وجهات سياسية بأن الحوار الوطني بدأ يتحول تدريجيا إلى مظلة داعمة للحكومة فقط، رغم أن الغاية الأساسية منه كانت الاستماع لصوت المعارضة ومطالبها وتقريب المسافات بين الجانبين، لكنه صار متهما من البعض بالانحراف عن مساره لتمرير قرارات الحكومة.
وبينما تنعقد أولى جلسات مناقشة قضية الدعم النقدي السبت المقبل، استبق الحوار تلك الجلسات، وأعلن أن الدعم النقدي يساهم في إعطاء المرونة والحرية للمواطنين بشكل أكبر ويمكنهم من شراء سلع مختلفة ومتنوعة بجانب الحصول على الخدمات، بما يعود بالنفع على الفئات المستحقة بشكل حقيقي.
ويعتقد مراقبون أن ما يُسوّق له الحوار الوطني من مزايا للدعم النقدي أمر منطقي في ظل الفساد الذي ضرب منظومة الدعم العيني، لكن ليس دور الحوار أن يحجر على رأي المختلفين مع توجهات الحكومة، أو يستبق النقاشات المرتقبة لإظهار انحيازه للسلطة كي لا يفقد مصداقيته ويظهر كأنه حزب تابع لها.
ويمكن بسهولة أن يكتشف المتابع للحساب الرسمي للحوار الوطني على موقع التواصل الاجتماعي إلى أي درجة أصبح هذا المنبر يتعامل مع الحكومة كمظلة تابعة لها، أو جزء من مكوناتها السياسية، حيث يجاهد لتحسين صورتها وإظهار محاسنها، في ملفات لها علاقة مباشرة بصميم حياة الناس ومعاناتهم.
ويتجلى ذلك، في تسليط الضوء على تحركات الحكومة لحماية البسطاء من خلال برامج متعددة، مثل تكافل وكرامة، مبادرة حياة كريمة، وبرنامج الإسكان الاجتماعي، وغيرها، مع ميزانية ضخمة لعام 2024 – 2025 تُقدّر بأكثر من 635 مليار جنيه (الدولار= 49 جنيها) لدعم الفئات الأولى بالرعاية، وهي نفس نبرة الأحزاب المتناغمة مع السلطة.
وأدى النهج الداعم للحكومة من جانب الحوار الوطني إلى اتهامه من أصوات معارضة بأنه أداة توظفها السلطة متى وكيفما أرادت لتمرير توجهاتها، من منطلق أنه كيان مستقل يجمع القوى السياسية المختلفة تحت مظلته، لكنه مع الوقت تماهى في الدفاع عن الحكومة بشكل أثار الشكوك حول بعض توجهاته.
وتدافع أصوات أخرى عن الحوار بأنه ليس مطلوبا منه الوقوف على مسافة واحدة في ملفات ترتبط بتوجهات حكومية تستهدف المصلحة العامة، وتعيد الأمور إلى نصابها، وتقضي على الخروقات والفساد في قطاعات جماهيرية، بل إن دوره توعية الناس ودفعهم إلى دعم الفكرة وعدم السماح للمعارضين بفرض وجهات نظرهم.
كما أن ملف الدعم النقدي أصبح أولوية لدعم الفقراء، لأن هناك وقائع فساد، ومهم أن يخلق الحوار الوطني دعما شعبيا للجلسات التي سيناقش فيها تلك القضية، خشية أن لا يتحقق التوافق المنشود حول القرار المرتقب أو تنجح قوى معارضة في تأليب الشارع ضد الفكرة نفسها.
وقال محمد سامي الرئيس الشرفي لحزب الكرامة، عضو الحركة الديمقراطية المدنية، إن الحوار الوطني لم ينحرف عن مساره ويتعاطى وفق التحديات على الأرض، ولا يزال يضم من بين أعضائه شخصيات على درجة عالية من الوعي والفهم الاقتصادي والاجتماعي، لذلك يتحدثون عن دراية كاملة بما يعرض عليهم. وأضاف لـ”العرب” أن الجمود لم يضرب الحوار، لأن الكثير من أعضائه لن يسمحوا لأنفسهم بأن تلتصق بهم تهمة التهليل والتمجيد في الحكومة، لكن هناك حديثا يرتبط بمدى قدرة الحوار على جذب الشارع إليه بإجراءات واقعية.
◙ حالة من انعدام الثقة بدأت تتسلل بين الأطراف المنخرطة في الحوار في ظل عدم حصول رموز المعارضة على إشارات إيجابية تعكس تغييرا حقيقيا في رؤية الحكومة
ويتعامل الكثير من المصريين مع الحوار الوطني بترحيب وتقدير، كونه نجح في فتح مسارات للنقاش حول قضايا داخلية ملحة لم يكن ممكنا التطرق إليها من قبل، ولا يقطع الطريق أمام رأي أو مقترح، وينتظرون منه الكثير دون الوقوف عند ملفات بعينها، بما يقود إلى تغيير حقيقي في توجهات الحكومة.
وبدأ الحوار في مصر قبل عامين، كاستجابة لحاجة الدولة إلى مناقشة بعض القضايا الوطنية، ومعالجة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكمنصة تجمع تحت مظلتها الأطياف المختلفة في حوار شفاف، بهدف الوصول إلى توافق حول الأولويات.
وبدأت تتسلل حالة من انعدام الثقة بين الأطراف المنخرطة في الحوار، رغم تكرار الدعوة إلى أهمية الاستماع إلى الرؤى المختلفة بشأن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، في ظل عدم حصول رموز المعارضة على إشارات إيجابية تعبر عن تغيير حقيقي في رؤية الحكومة بشأن بعض الملفات التي يجب التركيز عليها. وما جعل البعض يضع مظلة الحوار في خانة واحدة مع الحكومة أن ثمة تجميدا غير معلن أصاب الملفات المرتبطة بالحقوق السياسية والحريات العامة وسجناء الرأي، مقابل تصعيد قضايا اجتماعية واقتصادية.
وبدت ملامح عدم اكتراث مجلس أمناء الحوار بوجود مشاركة من جانب قوى المعارضة والحركة المدنية في النقاشات من عدمه، حيث كانت مقاطعتهم لجلسات الحوار تمثل أزمة للحكومة، لكن مع الوقت صار حضورهم بلا جدوى، وهو إحساس طال الطرفين معا، لتباعد المسافات بينهما في الرؤى والأهداف.
وهناك مخاوف من أن تتحول اجتماعات الحوار الوطني المقبلة إلى جلسات استماع أكثر منها نقاشا بالمعنى الحقيقي، لتكريس أمر واقع بأن من لهم حق إبداء الرأي فقط هم المتناغمون مع الحكومة، بحجة تراكم التحديات بما يمنع النقاش حول قضايا شائكة.
وما لم تتحرك الحكومة لمراجعة مسار الحوار ليعود كمنبر متوازن يجمع كل الطوائف الفكرية والسياسية ويتاح للجميع فرصة التعبير عن الرأي وطرح الحلول، فإن الأزمات الراهنة سوف تظل كما هي، بما يجعل السلطة تخسر مظلة حيوية كانت تتقارب من خلالها مع الشارع والمعارضة.