خدعة التكريس
يتمّ تقسيم الأدباء والكتّاب أحيانا إلى أكثر من فئة، هناك مَن يوصفون بالمُكرَّسين، وهذا توصيف يطلق على أولئك الذين باتوا معروفين على صعيد العالم العربيّ، ومنهم مَن أصبح معروفا على نطاق عالميّ.
لا يتعلّق الحديث عن التكريس، والمكرَّسين، بأيّ صراع مفترَض بين الأجيال، ولا بأيّ أوهام ترافق مقولات قتل الأب، بل يروم تفكيك أدوات لعبة دعائية استمرّت طويلا، وتجنّت على الثقافة كثيرا، بحيث كرّست صورا بائسة عن المثقّف، ساهمت في خلق فجوة بين القلّة القليلة المحافظة على عادة القراءة والأدب، ودفعها إلى إهمال ما تقدّمه، طالما يدور في دائرة مغلقة على نفسها من الثرثرة واللغو وأوهام العظمة.
بتحليل آليات التكريس في العالم العربيّ، يمكن الوقوف على أكثر من صيغة وطريقة، فهناك تكريس اشتغلت عليه الأنظمة، إذ سعت من خلاله إلى تصدير واجهات ثقافيّة لها، بحيث أنّ تلك الواجهات شكّلت تحالفا غبر مكتوب في ما بينها، وأصبحت بمثابة طوق ثقافيّ للأنظمة التي دعمتها وتدعمها، وتحول دون خروج المناهضين لها إلى الضوء، وتسعى إلى التعمية عليهم، وتحجيم نتاجاتهم قدر استطاعتها.
هذه الفئة من المكرَّسين لا تزال تتلوّن، وتنتقل من ضفّة إلى أخرى، تتماهى مع السلطات الاستبداديّة تارة، وتزعم مناهضتها الشكليّة تارة أخرى، وهي في حقيقتها مرهونة للسلطات التي كرّستها كأسماء، ونفخت فيها لتضخّمها وتبرز المناوئين لها صغارا غير أكفاء، وترهن لذلك كلّ قواها وطاقاتها في هذا المجال، كأن توجّه بتخصيص الاهتمام في الدراسات الجامعية على نتاجات هذه الفئة، والحضّ على تعظيمها.
يغدو التكريس بهذا المعنى خدعة انطلت على الجمهور، فيكون التداول والتناول عبر المشفاهة والسماع، كأن يردّد الناس أصداء أقوال الإعلام بتضخيم هذه الشخصية أو تلك، ويمارس إظهارها المتكرّر على الشاشات، وإيلائها الأهمية والاهتمام، الدور الأهمّ في التعمية، وكأنّ الإبداع اختزل فيها، لتكرّس بذلك النموذج الذي تنشده، والذي يخدمها.
فئة أخرى من المُكرّسين؛ وهي صغيرة، حققت التميّز من خلال الجهد والمثابرة والالتزام، وهذه الفئة حوربت من السلطات التي سعت إلى تهميشها والتعتيم عليها، لكنّ نتاجاتها كانت كفيلة بالوصول إلى القرّاء والحظوة بتقديرهم واهتمامهم.
وهنا يكون التكريس استحقاقا يأتي عبر الاشتغال والتراكم والاهتمام بما من شأنه إثراء الساحة الأدبيّة والإبداعيّة. وبهذا المعنى يكون التكريس نقطة بيضاء في بحر الخداع الذي استمرّ طويلا في ظلّ الأنظمة الاستبداديّة. وقد تشكّل هذه النقطة أساسا مستقبليا لتمييز المُكرَّس التابع؛ ملمّع صور الطغاة، من المُكرَّس المبدع لاعن الطغاة ومعرّيهم.
كاتب من سوريا