خبراء ومسيرون ومثقفون عرب يبحثون في تونس سبل تعزيز الهندسة الثقافية

هناك الكثير من التظاهرات والمهرجانات الفنية والثقافية في تونس وفي نظيراتها من البلدان العربية، لكن هذه الفعاليات رغم أهميتها وزخمها لا تحقق حراكا ثقافيا شاملا، ما يعيده كثيرون إلى غياب ما يعرف بالهندسة الثقافية التي تخطط وتؤطر وتوجه الفعاليات وفق رهانات وأهداف وبرامج قريبة وبعيدة المدى، ولتلافي هذا النقص يبحث المركز الثقافي الدولي بالحمامات “دار المتوسط للثقافة والفنون” في هذا المجال مستعينا بخبراء من تونس وخارجها.
الحمامات (تونس)- ينظم المركز الثقافي الدولي في الحمامات “دار المتوسط للثقافة والفنون” ندوته السنوية من الحادي والعشرين إلى الثالث والعشرين من يوليو الجاري والتي تتزامن هذه السنة مع فعاليات مهرجان الحمامات الدولي في دورته السابعة والخمسين.
وتناقش الندوة الدولية هذه السنة الأسس النظرية للهندسة الثقافية وعلاقتها بإدارة المهرجانات الفنية كحفل عمومي، حيث يتناقش المشاركون ويتبادلون الأفكار حول المناهج النظرية المختلفة التي تقف وراء الفعل الفني، بالإضافة إلى وقوفهم على التحديات والفرص التي تواجه برمجة وإدارة المهرجانات الفنية في تونس وخارجها.
محاور الندوة
تتناول الندوة، التي يشارك فيها متدخلون من تونس والسعودية والمغرب وسلطنة عمان وقطر والعراق ولبنان وسويسرا، العديد من المواضيع الرئيسية فيما يتعلق بالهندسة الثقافية وإدارة المهرجانات، بداية بنظرية الطقوس والأداء، إذ تحاول فهم كيفية تشكيل الطقوس والأداء للهويات الاجتماعية وخلق روابط بين عناصر المجتمع والمساهمة في نقل المعاني الثقافية.
ويقارب المتدخلون نظرية الطقوس والأداء بالاعتماد على المقاربات الأنثروبولوجية والاجتماعية، إذ تمكن دراسة الطقوس ونظرية الأداء من تعميق فهم الأبعاد الرمزية والتعبيرية للاحتفالات الثقافية. فمن خلال عدة دراسات وتجارب مقارنة يمكننا تبيّن دور الطقوس والعروض في تشكيل الهويات الاجتماعية، وفي بناء جسور مجتمعية تتنقل عبرها المعاني الثقافية.
وإذا فكرنا في المهرجانات الفنية من خلال هذه المقاربة نتمكن من النظر إليها على أنها أحداث طقسية وأدائية أساسا، تمثل في كلّيّتها قناةً للتعبير عن القيم الجمالية والتقاليد الثقافية سواء أكانت مّحلية أم كونية. وعبْر هذه القناة يتمّ نقل ما ينتج من معان ثقافية من جيل إلى آخر؛ معان تتغير حتما إما بالزيادة أو النقصان أو التحوير أو بغيرها من التفاعلات.
كما يتناول المتدخلون مسألة البيئة الثقافية، عبر استكشاف العلاقة الديناميكية بين الثقافة والبيئة وتعزيز الممارسات المستدامة والمسؤولية في إدارة المهرجانات الفنية.
ونستكشف في هذا الإطار كيف تتكيف الممارسات الثقافية وتتطور استجابة للتغيرات الإيكولوجية والاجتماعية. وبتطبيق هذه النظرية على المهرجانات الفنية يمكننا النظر في كيفية تفاعل المهرجانات مع سياقاتها المادية والاجتماعية والثقافية. ويبدو أن هذا المنظور يشجع بشكل خلاق على الممارسات المستدامة والمسؤولة في إدارة المهرجانات، مع مراعاة التأثير البيئي والعلاقة بين الثقافة والطبيعة.
كما يناقش ضيوف الحدث أدوار التراث الثقافي ودراسات الذاكرة، من خلال إلقاء الضوء على أهمية الاستمرارية الثقافية ودور المهرجانات الفنية في الحفاظ على التراث الثقافي ونقل الذاكرة الجماعية. ويعنى هذا المبحث بطُرُق انبناء المجتمعات وكيفية محافظتها على ديناميكية الذاكرة الجمعية. ولعل هذه المقاربة من شأنها أن تسلط الضوء على أهمية الاستمرارية الثقافية ودور المهرجانات الفنية في الاحتفال بالتراث الثقافي وتثمينه؛ إذ يمكن أن تكون المهرجانات الفنية بمثابة منصّات لنقل الذاكرة الثقافية والحفاظ على الممارسات الثقافية اللامادية.
ويمكن للمهرجانات الفنية أيضا أن تلعب دورًا أساسيًا في تعزيز البعد الاقتصادي للتراث الثقافي؛ إذ تحوّل مثل هذه الفعاليات المنتج الثقافي إلى منتج اقتصادي قابل للتسويق كالموسيقى والرقص والمسرح والفنون البصرية والحرف وفن الطهو وغيرها. بل إن لها القدرة على جذب جمهور متنوّع، محليًّا ودوليًّا، ممّا يعزّز السياحة والضيافة والتموين والصناعات الإبداعية ذات الصلة.
بينما تمثل مسألة التشاركية الثقافية محورا آخر في الندوة، يبين من خلاله المتدخلون كيفية دعم الممارسات الثقافية الجماعية، ومنح الصوت للمجتمعات المهمشة وتعزيز التنوع الثقافي.
◙ مثقفون وخبراء عرب يبحثون سبل الاستفادة الكاملة من مفهوم الهندسة الثقافية في تخطيط وتنظيم المهرجانات الفنية
وتراهن الديمقراطية الثقافية على أهمية الممارسات الثقافية الشاملة والتشاركية. وتسعى إلى تحدي التسلسلات الهرمية وهياكل السلطة في الإنتاج والاستهلاك الثقافي، وإعطاء صوت للمجتمعات المهمّشة ودعم تنوع الثقافات. ومن خلال هذا الإجراء تضمن للمهرجانات الفنية إشراك المجتمعات المحلية في النشاط وتعزيز المبادرات الشعبية والتعاون بين الفنانين والجماهير والمنظمات الثقافية؛ إذ تؤكد نظرية الديمقراطية الثقافية على ضرورة التكامل والإنصاف ودمقرطة الخبرات الثقافية.
وعبر نظرية المكان تفحص الندوة النظريات المكانية لكشف العلاقة بين الممارسات الثقافية والأماكن الجغرافية التي تحدث فيها، ساعية لإلقاء الضوء على كيفية بناء وتشكيل الفضاءات والأماكن اجتماعيًا من خلال الأنشطة الثقافية، في سياق مهرجانات الفنون، حيث تسلط هذه النظرية الضوء على دور المكان الفعلي للاحتفال واستخدام الأماكن العامة، وتأثير التخطيط المكاني على تجربة المهرجان والمشاركة المجتمعية.
ومن خلال هذه الأسس النظرية التي تقترحها الندوة، سيستفيد الأكاديميون والممارسون في مجال إدارة الثقافة والفنون من منظور متعدد التخصصات للهندسة الثقافية وإدارة المهرجانات الفنية، حيث سيبحثون في التقاطعات الممكنة بين الثقافة والمجتمع والاقتصاد والتنمية الحضرية، وتقديم أفكار وأطر للتخطيط والتنظيم والترويج الفعال للفعاليات الثقافية مستقبلا.
وبفضل الاستناد إلى هذه النظريات يمكن للممارسين أن يتأملوا في مبادئ الهندسة الثقافية لتصميم مهرجانات فنية ديناميكية وذات مغزى تثري واقعنا الثقافي المعاصر وتحسن إدارة استغلال الموارد وتحقيق أهداف العمل الفني الأمثل.
ويشتغل المشاركون من تونس وخارجها على مجموعة من الرهانات على رأسها الابتكار في برمجة الثقافة والفن، والاستدامة المالية والبيئية للمهرجانات الفنية، كما يشتغلون على ترسيخ التعاون بين الفاعلين الثقافيين والمجتمعات المحلية، إضافة إلى استخدام التكنولوجيا الرقمية في تجربة المهرجانات الفنية، مبينين تحديات وفرص التنوع الثقافي في خصوصية المهرجانات الفنية.
التفكير بصوت مرتفع
يومًا بعد آخر يتجذّر مفهوم الهندسة الثقافية في علاقتها بإدارة المهرجانات الفنية، ومن أجل ذلك يأتي تنظيم هذه الندوة الفكرية كنتاج لأبحاث وتفكير مستمر في مجال إدارة المهرجانات الفنية، بالاستعانة بأدوات الهندسة الثقافية كمنهجية مفيدة في تخطيط وتنظيم الفعاليات الثقافية.
ويُعَدّ مفهوم الهندسة الثقافية أحد المفاهيم الأساسية التي تجذّرت منذ ثمانينات القرن الماضي في مجال إدارة المهرجانات الفنية. وقد قام بتأسيس هذا المبحث الخبير الفرنسي الرائد كلود مولار، ومن خلال التراكم العلمي والعمل الثقافي المستمر تطورت نظرية تسمح بالاستفادة الكاملة من مفهوم الهندسة الثقافية في تخطيط وتنظيم المهرجانات الفنية، لتصبح هذه المهرجانات صورة إجرائية لما هو نظري.
وتهدف هذه الندوة الفكرية إلى استعراض ومناقشة مختلف الأسس النظرية التي ترتكز عليها الهندسة الثقافية في إدارة المهرجانات الفنية، حيث سيتم تسليط الضوء على أهمية البحث والتفكير في مستقبل المهرجانات الفنية، وكيف يمكن استغلال أدوات الهندسة الثقافية لتحقيق تنظيم أفضل وتجربة ثقافية غنية للجمهور المشارك.
وتدرك مؤسسة المركز الثقافي الدولي بالحمامات “دار المتوسط للثقافة والفنون” جيدا التحدي الكبير وهي تفكر بصوت مرتفع في مستقبل المهرجانات الفنية في خضم احتفالها بالدورة السابعة والخمسين لمهرجان الحمامات العريق وما يحمله ذلك من مسؤولية يتوازى فيها النظري مع التطبيقي في تنفيذ فقرات المهرجان، وتسعى مع مختلف شركائها إلى أن يكون مهرجان الحمامات منصة لا للعرض واستقبال الفنانين فقط بل للتفكير معهم مليا في مستقبل الاحتفال العمومي بما هو “مهرجان” كظاهرة فنية واجتماعية واقتصادية.
وتسعى هذه الندوة لتكون منصة فريدة تسمح بتبادل الأفكار واستعراض التجارب ومقارنتها مع الأكاديميين والمختصين من أجل جودة التخطيط والتنظيم والترويج للفعاليات الثقافية، بهدف خلق مهرجانات فنية متجددة تثري واقعنا الثقافي المعاصر.