خالد نزار.. رحيل الإسبرطي العنيد الذي قاوم الاستعمار والإرهاب

لأشهر عديدة راقبت الجماعات الإسلامية المسلحة، سنوات التسعينات وبالضبط سنة 1993، اثني عشر مسارا كان اللواء خالد نزار يتخذها طرقا للالتحاق بمكتبه في وزارة الدفاع الوطني، خططت، وغيرت الخطط، وأعادت نشر عيونها كلما استجدت الأمور أو حين لا يظهر في أي مسار من هذه المسارات.
كانت تلك الأشهر خطيرة وقاتلة من حيث المدى الذي وصلت إليه العمليات الإرهابية في الجزائر.
في حدود الساعة السابعة والنصف صباحا تقريبا، وبأعالي الأبيار، وفي أحد الطرقات التي اعتاد موكبه المرور منها، وهو واحد من المسارات التي ركزت عليها الجماعات الإسلامية المسلحة كثيرا، وبشارع ضيق فوق ملعب كرة قدم، كان مسلح (تاب لاحقا) هو وأعضاء فريقه الصغير يقفون غير بعيدين يراقبون المكان، وعندما تأكدوا أن موكب نزار المرافق بجمهرة من حراسه يقترب ضغطوا على زر العبوة الناسفة، ما أدى إلى انفجار قوي هزّ المكان.
نجا اللواء خالد نزار بأعجوبة من الحادث الذي خلف أضرارا بليغة بالعمارات المحاذية للشارع، ولحسن الحظ لم يصب أي أحد لقلة الحركة في ذلك التوقيت. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يتعرض فيها نزار لمثل هذه العملية التي نفذتها الجماعات الإسلامية المتطرفة.
ولم يكن هو الوحيد من القيادات العليا للجيش الذي كان على القوائم السوداء للاغتيالات، فقد تعرض الفريق توفيق قائد جهاز المخابرات سابقا لمحاولات اغتيال بقيت طي الكتمان، أفصح عنها نزار في أحد حواراته، وقبله كادت عملية نوعية ودقيقة تودي بحياة الفريق علي بن علي القائد الحالي للحرس الجمهوري.
كان ذلك في زمن دخلت فيه الجزائر أحلك وأخطر مرحلة من تاريخها المعاصر، وكان اللواء نزار أحد أهم صانعيها إن لم يكن وحده من صنعها وصاغ تفاصيلها، لتبقى تلك المرحلة الصعبة التي ينظر إليها اليوم الكثيرون على أنها مفصل تاريخي هام أوقف خلاله اللواء نزار مدّا إسلاميا متطرفا جارفا كان قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على الحكم بتواطؤ من فصيل داخل النظام.
اللواء نزار هو أحد القلائل الذين يحوزون على أخطر وأهم الأسرار منذ أحكم قبضته على الجيش، أخذها معه حين فرّ بجلده إلى الخارج وأخيرا برحيله عن الدنيا مساء الجمعة.
غادر نزار إلى الخارج بعد أن هيمن الفريق قايد صالح على الدولة، واعتقل فيها من اعتقل، وأرعب كل من سولت له نفسه الوقوف أمام اندفاعاته غير المحسوبة.
أوشك قايد صالح من مسافة صفر أن يزج بنزار في السجن كما فعل بغيره، إثر تداعيات اللقاء الشهير الذي جمع الفريق توفيق والسعيد بوتفليقة والزعيمة اليسارية لويزة حنون، لتدارس الوضع الخطير الذي أفرزه الحراك الشعبي. غير أن نزار، وهو الخبير والداهية والماكر، والعارف بالبواطن ونفوس العسكر، أطلق نحو قايد صالح تصريحا ناعما مطمئنا، وكان كمن نوّمه في العسل، فسمح له بالسفر بحجة العلاج.
بقيت تلك الأسرار في قلب نزار، وخوفا من انفلاتها كان لا بد أن يعود إلى أرض الوطن. لم يكن له خيار آخر سوى الامتثال لعرف وتقليد وعهود مكتومة ومكتوبة بأحبار سرية لهؤلاء الكبار، بالحفاظ على علبتها مغلقة إلى الأبد وإلا سيكون مصيره التصفية.
وها هو اليوم يترجل ويرحل وترحل معه العلبة إلى القبر ليتحلل ما بداخلها في التراب كما سيتحلل جسده الإسبرطي الذي قاوم به الاستعمار والإرهاب، وهي نفسها الأسرار التي أخذها قبله عبدالعزيز بوتفليقة وقاصدي مرباح ومحمد بتشين، ومازالت تنبض في قلب القلة القليلة كشنقريحة وتوفيق أو حسان أو ممن لا يعرف الجزائريون عنهم شيئا.
ظل اللواء نزار طوال سنوات كالنسر محلقا في سماء الجزائر المثقل بغيوم المشاكل والصعاب والأزمات، حديث صامت وصراخ عال يسكن ألسنة الساسة والعسكر، الأصدقاء والأعداء.. يتنقل بخفة وثقل ومرارة في الأحاديث والكواليس، يباركه هذا وينتقده ذاك، عرضة للتهجم والتشويه والاستحسان، بطل وخائن وعميل ومجاهد كبير.
طوال حياته لم يلتزم الصمت، بل تصدى وواجه وتلقى السهام والنبال والرصاص بصدر مفتوح وبعصاه التي رافقته في السنين الأخيرة. حاجج ودافع، وكتب ما عاشه وعايشه، وأعطى رأيه بكل وضوح، ولم يتراجع لآخر نفس في الدفاع عن الجزائر وعن نفسه.
سافر إلى فرنسا للوقوف في وجه الذين وجدوا من بسطوا لهم السجاد الأحمر للنيل من المؤسسة العسكرية والنكث بالحلف المقدس لحمايتها والذود عنها بالدم والروح والجسد، الأمر الذي لم يتقبله نزار، فهو ابن المؤسسة وحاميها، من مسها مسّ شرفه وعرضه، نافح عنها أمام القضاة الفرنسيين بقوة وعزم ودحض الشبهات.
كان في كل هذا جبارا، غاضبا وكسيرا وحزينا ومقاوما، وقلقا من الهزات التي قد تصيب المؤسسة خاصة والجزائر عامة، ليس في تلك اللحظة فقط بل في المستقبل حيث التحولات والمفاجآت التي يمكن أن تقع، وهو ما حدث حين ضجّ الشارع يوم تحرك برمته ضد العهدة الخامسة الملتبسة للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، وامتد الغضب في لحظة فارقة محيرة إلى المؤسسة العسكرية وبالذات إلى جهاز المخابرات.
أجهده المرض ونال منه، فعاد إلى الوطن بعد إقامة عاصفة في إسبانيا تراقبه أعين العديد من أجهزة المخابرات العالمية. راقب من هناك الوضع، وتواصل بشكل يومي وسري مع دائرة ضيقة من كبار الضباط العاملين منهم والمتقاعدين، لم تخرج تلك المحادثات إلى العلن ولا يعلم أحد بفحواها، ولكن بالتأكيد كانت تدور حول المآلات والنتائج وما يجب فعله للوضع المتأزم في الجزائر، قبل أن تنفجر الأمور وتنتهي إلى فوضى لن ترحم أحدا.
عاد معززا مكرما على متن طائرة رئاسية. أحدث الأمر غصة مريرة في حلق الخصوم، في اعتقادهم أنه سيسلسل في مقامع من حديد، ويلقى في غياهب السجون. لا يعرفون أن الدولة الحقيقية لن تترك رجالها فما بالنا بكبارها مهما اشتدت عليهم العواصف والمحن سيظلون كما هم، وما خالد نزار إلا واحد منهم شامخ.
ظهر على الشاشات كأنه ملك منفي، يخطو بثقل على عصاه فوق أرض لطالما جابها شرقا وغربا، جنوبا وشمالا، يستطلع ويستكشف ويتحسس الأخبار ليعرف أكثر، ويبحث عن واقع ما يحدث هنا وهناك، غابت عنه أمور مؤلمة بدت صغيرة ولا أحد يعرفها لأنها بعيدة عن الضوء، فاجأته.
في إحدى المرات بعدما تقاعد اللواء نزار توفي أحد رفاقه في الثورة، سافر إلى منطقة بعيدة جدا تقع في إحدى الولايات لتقديم واجب العزاء، زحفت سيارته على الطريق الوعر، كانت تتمايل من شدة التعرجات والحفر، ولما وصل إلى القرية ذهل من المناظر البائسة في كل زاوية وبيت، فقر مدقع على الوجوه، وقسوة صامتة تئن على الأرض، وحين قفل راجعا التقى أحد الصحافيين المقربين منه وبحسرة وألم قال له إنهم كحكام وقادة لم يفعلوا شيئا لهذا البلد.
من النادر في الجزائر أن يطور العسكر علاقة سلسة مع وجوه من المجتمع السياسي والمدني على حد السواء. يحكي نزار عن علاقات جمعت بين لويزة حنون والفريق توفيق أو تلك التي جمعته بعدد من الوزراء والشخصيات خاصة أثناء ممارسة كرة القدم المحبب إليه، لتبقى هذه العلاقات ترشح بالكثير من التكهنات والأقاويل عن مدى متانتها وقوتها بينهم.
لا ينظر إلى خلو هذه العلاقات من الوضوح على أنه استعلاء أو تكبر أو توجس، بل هو نتاج عقيدة مترسخة لدى العسكر عبر كافة مراحل وعمر الدولة الجزائرية، أساسها واجب التحفظ والكتمان والسر، رغم أن الحكايات والقصص تحاط بالكثير من الأوهام والأساطير وحتى بأمور ليست منطقية إطلاقا في فهم هذه العلاقة.
مارس بعضهم نفوذا خفيا في الكثير من المواقع والمراكز وحتى داخل عقول الصحافيين؛ فهناك من كانت له علاقة خاصة بالراحل الكولونيل فوزي صاحب اليد الطولى طيلة سنوات على الصحف والإشهار، لم تقرأ حوارات لكبار القادة العسكريين حتى أثناء العصف الدموي الذي أصاب الجزائر.
أُجري حوار وحيد نشر في إحدى الجرائد العربية، ولم يتم الإفصاح عن صاحبه وتناولته كبريات الصحف العالمية والمحلية كحدث خاص واستثنائي، ونسب آنذاك إلى جنرال مجهول، ونظمت وزارة الدفاع الوطني على هامش تخرج دفعات لضباط الجيش من العسكرية بشرشال سنة 2002 لقاء مرتجلا مع الصحافيين الحاضرين تحدث فيه الفريق الراحل محمد لعماري القائد السادس لرئاسة الأركان.
كان محاطا بقادة الجيش الكبار وتحدث عن العديد من القضايا المرتبطة بالوضع العام، لم تبق من ذلك اللقاء إلا لقطة شهيرة حين لوح أمام أعين الصحافيين والكاميرات بكشف راتبه كدليل على أنه لا يتقاضى سوى هذا المبلغ الرسمي ولا شيء غيره.
انزاح اللواء خالد نزار عن هذه السيرة الصارمة للجيش في التحفظ والانفتاح والتعاطي مع وسائل الإعلام بشكل علني، فخلال سنوات وبعد تقاعده ظل بيته وهاتفه مفتوحين لعدد من الإعلاميين، فهو لا يرد من يسعى إليه، مجادل بطبعه، لا يصمت أمام قول كلمة حق أو إبداء رأي ومشورة، وكان الإعلام في تلك الفترة من القوة والاحترافية ما يجعل من قبول الرأي المختلف واجبا ورسالة ومسؤولية مهما كان شكل ونوع هذا الرأي، تياره، وخصوصيته، من يكتبه، ومن يدلي به من كافة الأطياف فما بالك عندما يكون الطيف هو طيف عسكري وأي عسكري.
كانت اللقاءات معه دوما تتجلجل بقهقهاته المعروفة المدوية في قاعات التحرير، وتتغمم بنفثات دخان سجائره الذي كان يتطاير في الهواء، يجيب عن الأسئلة المحرجة بأريحية ودهاء ومكر، ومرات بتهكم وسخرية، ومرات بثقة وعزم وحزم، وهي أسئلة كانت إلى وقت ما بمثابة “تابو” ومحرم ذكرها، كعلاقته بالفريق توفيق رئيس المخابرات الأسبق.
ذكر أنه يخضع لأوامر الفريق توفيق كأي جندي يأتمر وينفذ تعليمات قائده، وفي ذلك رغب في تفكيك الهالة الأسطورية التي ضربت على هذا الأخير، بل قال في إحدى المرات إنه تعمد نشر صورته في كتاب من كتبه كي يكسر كثافة البحث الضنين عنه ليقول إن الرجل موجود بلحمه وشحمه وعظمه، وأنه يمشي ويأكل وينام، ويفعل أمورا طبيعية كغيره من الناس، وهذه خاصية لصيقة به وبغيره من العسكر وليسوا كائنات خرافية أسطورية معششة في المخيال.
رحل خالد نزار في الوقت الذي تكالبت فيه عليه منظمات خارجية مريبة لمحاكمته على ما قالت إنه “جرائم حرب” ارتكبها بعلمه وسكت عنها أو أمر بها، وهي التهم التي علا صوته من أجل نفيها طوال سنوات بالأدلة الساطعة التي تلمع لمن يريد أن يرى ويبصر ويعرف.
لن يحاكم اليوم ولا غدا، سيُـتـرك ما فعله وما قام به للتاريخ، وهو وحده القادر على الإنصاف أو الإهمال أو الإدانة أو الإنكار والنسيان، ولا يمكن بأي حال أن يضاف شيء إلى سيرته المفعمة بالأحداث التي عركته، فقد كتب كل ما خبره واستفاض فيه، وما على الأصدقاء والخصوم إلا قراءته من جديد بعيون من حديد علّها تكشف عمن هو خالد نزار الرجل الذي صنّع قدر الجزائر في يوم ما وأنقذها مع ثلة من الرجال من أنياب الوحوش وجنبوها السقوط في قعر الهاوية السحيق.