خالد ضوّا نحات سوري يجسّد آثار الحرب المدمّرة على بلاده

باريس – خلّفت الحرب السورية المستمرة منذ عشر سنوات خسائر مادية كبرى، لكنها خلّفت أيضا جراحا وندوبا لا تمحى من ذاكرة السوريين، إنها ندوب يحاول الفنانون منهم تحويلها إلى أعمال فنية تكون صوت الضحايا وذاكرة بلد دمرت أجزاء كثيرة منه.
وفي آخر أعماله الفنية، يجسّد النحات السوري خالد ضوّا المقيم في فرنسا مجسما كبيرا لحيّ سكني سوّته غارات النظام السوري بالأرض وحوّلت سكانه جثثا مدفونة تحت أنقاض المباني المهدمة بجانب ألعاب الأطفال، وهو بهذا الجسم يستعرض صورة تكررت مرات كثيرة في سوريا على امتداد العقد الماضي ليُبقي تضحيات السوريين حية في الأذهان.
وضوّا هو فنان سوري من مواليد 1985. تخرّج من كليّة الفنون الجميلة – قسم النحت في دمشق ونظّم العديد من المعارض.
خالد ضوّا نحات يعمل على مواضيع تضع “الشعب والسلطة” وجها لوجه
ويواصل الفنان في عمله الذي يحمل عنوان “هنا قلبي!”، كما في سائر الأعمال التي أنجزها منذ أن لجأ إلى فرنسا، يواصل الفنان السوري البالغ 36 عاما كفاحه ضد الظلم، محاولا بلا هوادة الحث على “عدم نسيان ثورة الشعب السوري وتضحياته”.
وبعد معارض في فرنسا وأوروبا، يشهد عمله في الأشهر الأخيرة زخما قويا في منشآت كبيرة. وتُعرض منشأة “هنا قلبي!” في المدينة الدولية للفنون في باريس، على أن تُعهد قريبا إلى متحف وطني فرنسي كبير.
وقال ضوّا “عندما أعمل على هذه القطعة في محترفي، أشعر بأنني في دمشق. أقوم بكل ما في وسعي هنا، بعيدا عن هناك”.
ولا تزال ذكريات السجن المريرة تسكن الفنان السوري الذي ترك القمع الوحشي وغياب أصدقائه المقتولين أو المفقودين أو القابعين خلف قبضان السجون، أثرا لا يمحى في حياته.
بين الثورة والذاكرة، يرمي ضوّا من خلال عمله الجديد إلى التنديد بـ”تقاعس المجتمع الدولي في مواجهة الأنظمة الدكتاتورية” في سوريا وأماكن أخرى.
ويقول “في مواجهة الكارثة التي تحدث في سوريا، أشعر بالمسؤولية لأنني أملك الأدوات للتعبير عن نفسي”.
وبدأ ضوّا هذا العمل الفريد والضخم عام 2018، حين كان قلبه يدمي لمشاهدته من بُعد مأساة الغوطة الشرقية قرب دمشق، وهي من المناطق التي التحقت باكرا بالانتفاضة الشعبية ضد النظام بُعيد بدء النزاع السوري عام 2011، وشهدت دمارا واسعا نتيجة الغارات المكثفة وهجمات كيمياوية وحصارا مأسويا.
في “هنا قلبي!”، يبدو الدمار سيد المشهد: ففي العمل البالغ طوله حوالي ستة أمتار وارتفاعه أكثر من مترين، والمصنوع من البوليسترين ومواد هشة -أغلبها من التربة والغراء والخشب- مغطاة بالطين، أعاد النحات بناء الهيكلين الداخلي والخارجي للمباني ذات الأبواب المحطمة والشرفات المدمرة حيث يمكن حتى رؤية الكراسي المنقلبة.
لكن تحت الأنقاض، آثار من وجود البشر، ودراجات مدمرة، وحافلة مقلوبة. ويمكن رؤية جثة طفل بجانب كرة لعب، وجثة أخرى لامرأة مسنّة.
ويحاول الفنان السوري من خلال هذا العمل أن ينقل معه المتلقّي ليشهد على فظاعة مشاهد الموت والدمار.
ويعتبر الفيلسوف غيوم دو فو العضو في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى وأحد مؤلفي كتاب “التدمير في أعمال، مقال عن الفن السوري المعاصر”، من بيروت أن العمل “فريد ومبتكر تماما”.
ويقول “عرَضَ فنانون آخرون أشياء مدمرة وصنعوا منها فنهم”، لكن ضوّا “يُظهر مسار التدمير من الداخل، فهو يتوقف قبل أن يختفي الشكل تماما، لكن المتفرج سيُقاد حتما إلى تخيل اللحظة التي ينهار فيها كل شيء… كما عندما يضغط تماثيل لسجناء، ليعبّر عن قمع الاعتقال، وأبعد من ذلك أفق اختفائهم”.
وبصفة عامة، يعمل خالد ضوّا على مواضيع تضع “الشعب والسلطة” وجها لوجه، فمنذ انطلاق الاحتجاجات المعارضة للنظام عام 2011، شارك ضوّا في تظاهرات قبل خوض مغامرة مشتركة مع فنانين وناشطين في إطار مركز ثقافي مستقل أطلقه الممثل فارس الحلو في دمشق يحمل اسم “البستان”.
ورغم الضغوط الأمنية، واظب خالد على مدى ثلاث سنوات على المشاركة في التظاهرات والعمل في هذا المكان. ووجد نفسه وحيدا تقريبا خلال عام 2013. ويقول “كانت معركتي ألا أتخلى عن المشروع، لئلا يكون ذلك بمثابة التخلي عن الأمل”.
وخلال هذه الفترة أدرك ضوّا التأثير الذي يمكن أن تُحدثه منحوتاته. على صفحته على فيسبوك، نشر صورة من عمله “حققت انتشارا كبيرا في كل مكان” مع “المئات من المشارَكات”.
ورغم الخطر، واصل ضوّا عمله الإبداعي واستمر بنشر الصور قبل تحطيم منحوتاته “حتى لا يترك أي أثر”.
وأصيب بجروح خطرة ذات صباح في مايو 2013 داخل محترفه من جراء شظايا طلقات نارية أطلقتها مروحية تابعة للنظام، وسُجن فور مغادرته المستشفى.
طوال شهرين، عانى من الرعب في سجون مختلفة شهد فيها على معاناة معتقلين آخرين من ضحايا التعذيب.
ويوضح ضوّا “كانت مرحلة عصيبة، كان ذلك خلال الصيف. كان هناك الآلاف من الناس؛ وفي كل يوم كان يموت ما لا يقل عن عشرة أشخاص”، لافتا إلى أن “جثثهم كانت تبقى معنا ليومين من دون أن يُخرجها أحد من الزنزانة… كان ذلك أمرا متعمدا”. ولا تزال هذه الذكريات تسكن كوابيسه، ويقول عنها “لقد حطموا الذكريات في رأسي”.
بعد إطلاق سراحه، تم إلحاقه قسرا بالجيش، لكنه فرّ من بلاده إلى لبنان في سبتمبر 2013، وانتقل إلى المنفى في العام التالي في فرنسا حيث حصل على صفة لاجئ.
ويقول ضوّا إنه أراد من خلال عمله “هنا قلبي!” أن يروي “كلّ ما لم يعد موجودا: عائلات، ذكريات” وكل ما ترك لديه “ندوبا في القلب”.
وتقول فيرونيك بيار دو مانديارغ المشاركة في تأسيس جمعية “أبواب مفتوحة على الفن” التي تواكب فنانين منفيين، إن ضوّا “كان يعمل مساء كل يوم لمدة أربع سنوات تقريبا”.
وتضيف “أراد خالد أن ينجز صورة ثابتة عمّا يحصل في سوريا، ليبقى في ذاكرتنا”.
بعد أيام قليلة من رؤية العمل في مشغل الفنان السوري، تبدو المحللة النفسية السورية رنا الصياح البالغة 54 عاما والتي لجأت إلى فرنسا، متأثرة بشدة بما رأته.
وتقول “إنه حقيقي للغاية… لم أستطع النظر إلى كل التفاصيل داخل المباني، كان الأمر صعبا للغاية”.
لكنها تتابع “خالد، من خلال هذه القطعة، يعبّر عن الوجع والألم الذي لا يمكننا الحديث عنه؛ لقد أعاد تركيب قصتنا”. وأودى النزاع السوري بحياة ما يقرب من 500 ألف شخص ودفع 6.6 مليون آخرين إلى المنفى.
في ورشة ضوّا في فانف بضاحية باريس، يمكن رؤية سلسلة منحوتات برونزية بعنوان “مضغوط”، تُمثّل جثة رجل بجسم متقوقع عالق بين أربعة جدران مع عدّ تنازلي للأيام خلفه، بما يشبه جدار سجين، مجسّد في نقش على الطين.
كذلك يُعرض عمل آخر للفنان السوري حتى فبراير في الفضاء العام في باريس، وهي منحوتة عملاقة بعنوان “انهض” مصنوعة خصوصا من الخشب والجص، وتظهر جسدا ضخما تملأ الثقوب رجليه ويديه ووجهه.
ويقول دو فو “فيما يخلّد نحاتو التماثيل العامة قوة الرجال العظماء، يعرض خالد ضوّا بدلا من ذلك قوة الانحطاط التي يُدين من خلالها” الدكتاتور نفسه.
ولوضع اللمسات الأخيرة على هذا التمثال، عمل خالد ضوّا وسط المارة في الشارع. ويقول بابتسامة مشرقة “عبّر لي أشخاص عن تشجيعهم، وهم يقولون لي لست وحيدا”.