خالد النجار يحلم بتغيير العالم بالشعر

من الصعب على الشاعر أن يترجم شعر الآخرين كما لو أنه يكتبه ويستجيب للحساسية اللغوية نفسها في الحالين. حينها تكون الترجمة غواية وليست هواية إذا ما استبعدنا المهنة في حال المرء كان شاعرا لا مهنة له، والتونسي خالد النجار ترجم لشعراء عالميين أحبهم وعاشر عددا منهم، فكانوا قريبين منه روحيا.
في كل ما فعله كان النجار مثل حطاب ينتقي كلماته من غابة قواميس مكتظة بالمفردات التي يظل معظمها بالنسبة إليه مجرد خشب لا يصلح لصناعة كاتدرائية وهمية هي القصيدة.
حين تساءل صديقه الروائي حسونة المصباحي "أين اختفى النجار؟" لم تقع عينه على الجغرافيا. فللنجار عناوينه البريدية التي لا يعبأ بها كثيرا. كان المصباحي يمد يده بقلق إلى المساحة الخيالية التي يقف عليها صديقه وهو يكتب الشعر ويترجمه وينظر له ويتمرّد عليه ويقاتله ويسعد به مثل صديق غريب لم يلتقه من قبل.
◙ عاش النجار حياته مختلفا بالطول وبالعرض، وهو الكائن الوحشي الذي أبى أن يُدجن شعريا أو اجتماعيا أو سياسيا
كلمات نضرة
يُقاس حضور النجار وغيابه بالقصيدة التي هي عنوان بقائه حيا على ظهر الأرض. ولكنه شاعر في كل ما يفعل، يترجم لسواه أو يكتب سيرته أو يقتفي أثره الشخصي أو يتنفس هواء حقول الكتابة لدى الآخرين حين يسافر إليهم من أجل أن يكتب عنهم كما فعل مع الشاعرة والروائية اللبنانية إيتيل عدنان. إنه هو دائما؛ الشاعر الذي لن تحبطه الكلمات لأنه لا يخونها.
"عندما كنت صغيرا كنت أمضي حتى أبواب الجنوب
مُصغيا إلى جريان الينابيع في الليل
عندما كنت صغيرا وبريئا
مثل أصداف المنام
كانت فراشات السطوح نجماتي
وظلال العربات ملكاتي".
حين كبر النجار تعلم أن يكون مسافرا ولم يكفّ عن الإصغاء إلى الينابيع ومطاردة الفراشات. غير أنه أضاف إلى همومه هما جديدا؛ “السياسة” هي ذلك الهم الجديد، الذي دخل إليه من بابه الإنساني الذي لا يعرف السياسيون الطريق إليه. وهو الباب الذي لا يستعمله أحد. وهو بالتأكيد لا يرغب في أن يكون سياسيا.
يصر النجار على أن يعيش عذابات الآخرين ويحتضن أسئلتهم كما لو أنه سيكون قادرا على مداواة جراحهم. السياسة بالنسبة إليه ليست تجربة عمل حزبي بل هي أداء يصل إلى درجة العبادة التي تبتكر ميزانا جديدا لشروط الوضع البشري؛ يقول "علينا أن نكون إنسانيين في كل لحظة عيش"، تلك فكرته عن الوجود.
ولد عام 1949. تعلق بالشعر منذ طفولته، وأسس دار نشر "التوباد" التي عُرفت بطابعها الخاص المتفرد في مضامين الكتب المنشورة وشكلها الأنيق. أصدر كتابه الشعري “قصائد لأجل الملاك الضائع” وسط كتب شعرية كثيرة ترجمها لشعراء عالميين يقف في مقدمتهم صديقه لوران غاسبار الذي عاش في تونس وأغرم بها وكتب عنها كثيرا.
ولأنه يعيش مسافرا فقد كتب الكثير من كتب الرحلات واليوميات، من بينها "غبار القارات". كما أصدر كتابا بعنوان "سراج الرعاة" تضمن حواراته مع كتاب ورسامين عالميين هم من وجهة نظره ما تبقى من رموز الحداثة، من بينهم يانيس ريتسوس وآلان نادو وإدوارد سعيد وزاووكي وإيتيل عدنان.
ضمن سلسلتي "القصيدة" و"المتون" أصدرت داره كتبا مترجمة لكل من هنري ميلر وبرنار نويل وسان جون بيرس ولوكليزو وغيرهم. ومن هذه الأسماء يمكن القول إن النجار كان حريصا في ما نشر على أن يجمع بين الأصول والحداثة في شخصيات الشعراء والكتاب الذين ترجم لهم. فالحداثة بالنسبة إليه ليست حدثا عارضا بل هي ضرورة تاريخية.
المثقف العضوي الأنيق
وإذا ما كان لافتا أن النجار أبدى اهتماما بنتاج الآخرين أكثر من اهتمامه بنتاجه الشعري والنثري فإنه ينهي ذلك الاستغراب بقوله القاطع "أنا أكتب أقل مما أقرأ وأنشر أقل مما أكتب".
في تونس يشهد له الكثير من أبناء جيله بأنه كان رجل الحداثة الأول، المشاغب الذي حرص على أن يقرأ كتب التراث في أرقى حالاته وأجملها، إضافة إلى إعجابه منقطع النظير بلغة طه حسين ومحمود المسعدي.
يقول الشاعر السوري بشير البكر عنه “لا يمكن أن يلتقي المرء النجار من دون أن يترك لديه انطباعًا قويا عن شخصية المثقف بالمعنى السارتري (جان بول سارتر)، الذي يتدخل في كل ما لا يعنيه. هو الشاعر “الداندي” وفق بودلير، الأنيق بلا إفراط، بهندمة باريسية واضحة حتى حين يرتدي الملابس الشعبية التونسية، عندما يحلو له أن يتمدد في منزله في منطقة الملاسين الشعبية في قلب تونس القديمة، وهو لا يفعل ذلك دائما".
◙ الكثيرون من أبناء جيله في تونس يشهدون له بأنه كان رجل الحداثة الأول، المشاغب الذي حرص على أن يقرأ كتب التراث في أرقى حالاته وأجملها
"أن تنبت وردة في حديقة بيتك هو حدث سياسي”، تلك مقولة مثيرة جعل منها خالد النجار عنوانا لحياته. يعتقد الكثيرون أنه أهدر شيئا من موهبته الشعرية العالية وأضاع أوقاتا عزيزة من أجل ألا يخون مبادئه في العمل السياسي باعتباره معارضا قديما. غير أنه يقول في إحدى قصائده القديمة:
"سرقوا مني طفولتي وجنوني
سرقوا رياحي من صناديق ثيابي الخشبية
ومن بوابات الجنوب
سرقوا نقيق ضفادعي
ومرايا أمي".
هناك شعور بالخديعة هي ليست وليدة الحاضر المضطرب، المطعون بالفوضى بعد ما سُميت بثورة الياسمين، بل هو شعور عميق يعود إلى أيام الحبيب بورقيبة. كما أن النجار منفتح على قضايا عالمية تجعل منه كائنا كونيا؛ فهو لم يحترف السياسة بل هو مقاتل من أجل الحرية. وهو ما دفع به إلى أن يعيش منفيا وقد لا تكون هولندا التي يعيش فيها الآن نهاية لذلك السفر الذي يمتزج فيه الروحي المطلق باليومي العابر.
المختلف كما في أول مرة
"لم تكن أسماكا حلمت بها
ولا خاتم سليمان الذي يلمع في الظّهيرة
ولا ماعز الليل في الجبال
◙ خالد النجار يحلم بتغيير العالم، والشعر هو وسيلته في ذلك الكدح الجمالي المضني
ولا حديد ميناء دوفر تحت سماء إنجلترا الرّماديّة
ولا سفن مقدونيا
ولا طائر القوبع في جبال ساوورج
ولا ألواح بابل التي تحوي سرّ العالم الأوّل
كان خفقة جناح فراشة في النوم".
في شعره كما هو في النص السابق يمتزج عالم كان قد رآه وآخر كان قد حلم به، غير أنه يعود في النهاية كما هو حاله في حياته الشخصية إلى لذة العيش الشخصي وحيدا والتي يعرف أنها ملاذه الأخير.
كل هذا الضجيج سينتهي إلى الصمت. وهو ما يعبر عنه في معظم قصائده التي تتميز بقصرها بسبب كثافة معانيها وغرابة أشكالها؛ تقنية شعرية تشبهه وتتشبه بحياته التي يعيشها مسرعا، متلذذا بكل لحظة من لحظاتها.
لا ينفع أن يُقال إنه شاعر مختلف ما لم يتم النظر إلى صورته إنسانا مختلفا. لقد عاش النجار حياته مختلفا بالطول وبالعرض، وهو الكائن الوحشي الذي أبى أن يُدجن شعريا أو اجتماعيا أو سياسيا. كما الشعراء الكبار يحلم خالد النجار بتغيير العالم، والشعر هو وسيلته في ذلك الكدح الجمالي المضني.