حين تتفتت السلطة تصبح الثورة ممكنة

الجمعة 2015/04/10
الشكل الأكثر تطرفا للسلطة هو ذاك الذي يعبر عنه شعار "الجميع ضد الواحد"

كتاب “في العنف”، الصادر عن الساقي ببيروت 2015، للباحثة والمفكرة الأميركية حنة أرندت، يناقش موضوع العنف في الكائن الإنساني وفي المجتمع، ويدرس العلاقة بين العنف والسلطة في مجتمعات مختلفة، إذ هما يظهران دائما معا، ترى المؤلفة أن هناك فارقا لا يمكن الإقلال من شأنه بين العنف والسلطة، وترى أن واحدا من أكثر التمييزات وضوحا بين السلطة والعنف يكمن في أن السلطة قد ارتكزت على الدوام إلى العدد، أما العنف فإنه إلى حد ما يكون قادرا على تدبير أمره مستغنيا عن العدد، لأنه يستند إلى أدوات القمع.

يقرّ كتاب “في العنف”، لحنة آرندت، بأن حكم الأكثرية من دون أن يستند إلى أية حدود قانونية أي الحكم الديمقراطي المفتقر إلى دستوره، يمكن أن يكون من نتائجه المرعبة حرمان كافة الأقليات من حقوقها ويمكنه -حتى من دون اللجوء إلى العنف- أن يتبدّى شديد الفاعلية في قمع المعارضين، ولكن هذا يعني أبدا أن السلطة والعنف شيء واحد.

إن الشكل الأكثر تطرفا للسلطة هو ذاك الذي يعبر عنه شعار “الجميع ضد الواحد” أما الشكل الأكثر تطرفا للعنف فهو الذي عبر عنه شعار “الواحد ضد الجميع” وهذا الأخير لا يكون ممكنا من دون اللجوء إلى أدوات القمع.

المشهد السياسي والميداني العربي سمته العامة الآن انتشار العنف والتطرف والقمع السلطوي الذي ازدادت وتيرته بعد ثورات الربيع العربي، وحصول تراجع ثوري -إن جاز التعبير- نتيجة عوامل أغلبها خارجية (إقليمية ودولية).

إحلال العنف في السلطة قد يحقق النصر لكن الثمن يكون مرتفعا جدا لأن من يدفعه لا يكون المهزوم وحده

خطوط الثورة

تشير المؤلفة آرندت إلى أنه منذ بداية هذا القرن -المقصود هو القرن العشرون- اخبرنا منظرو الثورات بأن خطوط الثورة قد تضاءلت بالتناسب مع تنامي القدرات التدميرية للأسلحة التي لم يعد أحد يملكها غير الحكومات.

غير أن تاريخ السنوات السبعين الأخيرة، بسجله الغريب الذي يضم الثورات الناجحة والثورات المخفقة يقول لنا شيئا آخر تماما، فهل كان الناس من الجنون بحيث جربوا حظوظهم وسط ظروف لا تلائمهم أيما ملائمة؟ ثم إذا تركنا جانبا الأعمال التي كللت بالنجاح التام، كيف بالإمكان تفسير الذي تحقق، حتى ولو كان نجاحا مؤقتا.

كما أن المؤلفة تركز على أن الهوة بين ما تملكه الدولة من أدوات العنف وبين ما يمكن للشعب أن يجهزه بنفسه بدءا من زجاجات البيرة، وكوكتيل المولوتوف وصولا إلى البنادق، كانت على الدوام من الضخامة بحيث أن التحسينات التقنية بالكاد تنتج أي فرق، وتشير إلى أن الكتب التعليمية حول “كيف تصنع ثورة” عبر التقدم خطوة خطوة من الانشقاق إلى التآمر، ومن المقاومة إلى الانتفاضة المسلحة، قامت كلها من دون تصور خاطئ يقول عن الثورة إنما “تصنع” في مجابهة يقف فيها العنف ضد العنف.

العنف يولد العنف

كما أن الحكومات كانت تفوق على الدوام تفوقا مطلقا، غير أن هذا التفوق يظل قائما فقط بمقدار ما تظل بنية السلطة لدى الحكومة غير ممسوسة، أي بمقدار ما تظل التعليمات مطاعة، وبمقدار ما يظل الجيش وقادة الشرطة مستعدين لاستخدام أسلحتهم ، كما أن الانهيار المأساوي للسلطة، والذي يحدث إبان اندلاع الثورات فإنه يكشف لنا بشكل مفاجئ، كم كانت الطاعة المدنية للقوانين، للحكومات، للمؤسسات مجرد تجلّ خارجي للدعم وللتوافق.

الواقع السوري

في تحليل دقيق وذكي يكاد ينطبق على الحالة العربية وتحديدا السورية تقول المؤلفة “حين تتفتت السلطة، تصبح الثورة ممكنة، ولكن غير ضرورية، وتعلمنا الأحداث دروسا حول أنظمة قمعية، سمح لها أن تظل قائمة لفترات من الزمن طويلة -إما بسبب عدم وجود طرف يرغب في أن يختبر قدرته، ويكشف عن ضعفها، وإما لأنها كانت من حسن الحظ بما يكفيها لعدم خوض الحرب ومعاناة الهزيمة- إن التفتت لا يظهر واضحا، في أغلب الأحيان، إلا خلال المجابهة المباشرة.

كما أن إحلال العنف في السلطة قد يحقق النصر، لكن الثمن يكون مرتفعا جدا، لأن من يدفعه لا يكون المهزوم وحده، بل يدفعه كذلك الطرف المنتصر، وعلى حساب سلطته الخاصة.

إن فقدان السلطة يصبح مغريا لأصحابها بإحلال العنف محل السلطة، وحين يحكم أحدهما (العنف، السلطة) حكما مطلقا يكون الآخر غائبا، والعنف يظهر حين تكون السلطة مهددة، لكنه إن ترك على سجيته سينتهي الأمر باختفاء السلطة، ويترتب على هذا أنه من غير الصحيح التفكير في اللاعنف بوصفه نقيض العنف، والحديث عن سلطة لا عنفية هراء لا معنى له، إذ بإمكان العنف أن يدمر السلطة لكنه بالضرورة عاجز عن خلقها.

14