"حيث الليل أكثر من غياب الشمس".. كتاب يكتشف ماضي السينما ومستقبلها

يقارب عمر السينما مئة وثلاثين عاما، منذ عرض أول الأفلام التي أنتجها الأخوان لوميير في باريس، مدة كانت كافية لهذا الفن الوليد أن يحتل صدارة الفنون الراسخة، وأن يؤسس له تاريخا خاصا من التحولات والمسارات، ويبدو أن السينما مستمرة في التطور مع خفوت الكثير من الفنون الأخرى اليوم.
عمر الخروصي
مسقط- تشكل السينما بؤرة جذب قوية في تاريخ الإنسانية، ذلك أنها مارست – وما تزال – دور الوسيط بين الأدب وبخاصة السردي منه، وبين علوم النفس والفلسفة والاجتماع.. وغيرها من مجالات الفكر والإبداع، مع احتفاظها بالقدرة على جذب شريحة واسعة من الجمهور.
وبينما تتسارع التحولات في عصر التكنولوجيا يطرح السؤال حول مستقبل السينما، وهو ما يحاول الكاتب والشاعر والسينمائي العُماني عبدالله حبيب الإجابة عنه في كتابه “حيث الليل أكثر من غياب الشمس”، الصادر أخيرا عن دار الرافدين ضمن منشورات الجمعية العمانية للكُتاب والأدباء.
السينما الثالثة
يقارب عبدالله حبيب هذا السؤال في كتابه الذي جاء في 144 صفحة، عبر تأملات حول السينما ومستقبلها، وما يمكن أن تنتهي إليه، بخاصة في ما يسمى “العالم الثالث”، متتبعا في ذلك الأنساق والجذور للتنبؤ بالمستقبل فيما يخص سيرورة السينما.
ويعرض المؤلف آراء ترى أن الأصل في السينما كان منذ تلك اللحظة التي نظر فيها الإنسان البدائي إلى وجهه في الماء فاكتشف معنى الصورة، وهذه الأطروحة جاء بها المنظّر السينمائي الأثيوبي تشوما غابرييل، وهو ما يحيل، بحسب المؤلف، إلى الأسطورة الإغريقية نارسيس، حيث الشاب الوسيم يُفتتن برؤية وجهه منعكسا على الماء حتى تحول إلى نرجسة، فكان هو المخرج الأول في تاريخ البشرية. وهو تصور يصفه المؤلف بأنه “تهور رائي”. ومثله ذهب باحثون في السينما والفلسفة إلى هذه الرؤية، ومنهم إين جارفي وستانلي كافيل اللذان يموقعان ميلاد السينما في الكهف الذي أورده أفلاطون في كتابه “الجمهورية”.
وبالنسبة إلى عبدالله حبيب فإن أول عرض سينمائي بالصورة التي نعرف بها السينما اليوم، تم في باريس عام 1895، وتحققت فيها أقانيم السينما الثلاثة وهي؛ أولا؛ الفن والإبداع (أي الخيال، أو تصور الفكرة عبر القلب أو العقل أو كليهما)، وثانيا؛ أقنوم الصناعة (أي تحقيق الفكرة عبر الأداة)، وثالثا؛ أقنوم التجارة (أي ترغيب الفكرة وتسويقها وعرض النص السينمائي على الشاشات للجمهور عبر عقد تجاري صريح).
ويتطرق الكتاب إلى مفهوم “السينما الثالثة”، الذي لا يرتبط بحسب عبدالله حبيب بمصطلح “سينما العالم الثالث”، بل هو يشير إلى نوع ثالث من السينما يتحدى ويقوض النوعين الاثنين السائدين من السينما المزاولة حتى ذلك التاريخ ويحلّ محلّهما، وهذان النوعان هما، أولا؛ سينما هوليوود التجارية الاستهلاكية التي توجد متفرجا يتماهى بصورة هروبية مع عالم سردي يصور العالم بمثالية واستيهامية لا توجدان في الواقع الفعلي للحياة، والنوع الثاني “سينما المؤلف” الأوروبية الفنية ذات الأفق الجمالي والثقافي الأرحب والأعمق، والتي بقيت متمحورة حول التجربة الفردية.
و”السينما الثالثة”، كما يتضح، يقوم فيها فريق إنتاج الفيلم بالعمل بطريقة تشبه طريقة عمل وحدة الثوار في حرب العصابات، وتعرض أفلامها بصورة سرية، ومنها الفيلم الوثائقي “ساعة الأفران” (1968)، وهو من إخراج هيتينو وسولاناس وخيراردو بايخو وآخرين، لكن ما يؤخذ على هذه السينما كما يتضح من تحليل المؤلف، أن هذه الأفلام من المتعذر الحصول عليها ومشاهدتها نظرا إلى أسباب كثيرة، كما أن سولاناس نفسه، بعد أن كان رافضا لسينما المؤلف، أخرج فيلم “تانغوت: منفى غارديل” الذي ينتمي لسينما المؤلف، منقلبا بذلك على نفسه.
ويرى عبدالله حبيب أن الثورة الرقمية باستغنائها عن البنية الأساسية السينمائية التقليدية، من شأنها أن تكون حافزا كبيرا للسينمائيين، حيث يمكنهم إنجاز أفلامهم باستخدام كاميرا الهاتف المحمول، كما فعلت المخرجة العُمانية الشابة مزنة المسافر التي أنجزت ثلاثة أفلام بكاميرا هاتفها المحمول، وهي: “تشولو” (2013)، و”بُشك” (2015)، و”عنزات دانا” (2015). وقد عُرض الفيلمان الأولان في مهرجان دكس للأفلام الوثائقية في الدنمارك.
تجارب سينمائية
يقدم المؤلف قراءة لعدد من التجارب السينمائية الراسخة، ومنها فيلم “الأرض الصفراء” لتشن كايغ (1984)، مشيرا إلى أن هذا الفيلم يخص التاريخ الصيني بأكمله، واستطاع أن يرسّخ نفسه منذ إطلاقه بوصفه واحدا من أهم أفلام “الجيل الخامس” في السينما الصينية، محدثا نقلة في تاريخ السينما الصينية التي بقيت لعقود طويلة، متواضعة في نوعية الإنتاج السينمائي الصيني.
كما يقدم حبيب قراءة في الفيلم الياباني “راشومون” (1950) للمخرج أكيرا كوروساوا، الذي بُني على قصتين للكاتب الياباني راينوسوكي أكوتاغاو، هما “في بستان” و”راشومون”.
وتدور قصة الفيلم حول الاعتداء على امرأة حديثة الزواج تنتمي إلى طبقة النبلاء أثناء مرورها في الغابة، وأُنشئ الفيلم وفق تقنية معقدة تقوم على الاسترجاعات المزدوجة؛ أي استرجاع في استرجاع، وغيرها من التقنيات التي أقحمت المتفرج في الجريمة التي يتقاسم الجميع ارتكاب تفاصيلها ووحشيتها وألقها الشرير وكمالها.
وفي جولته التي تناول فيها أفلام المخرج الأميركي آرثر بن، يحاول حبيب تحديد مشكلات معينة في الخطاب النقدي السائد عن أفلام هذا المخرج، إذ يبدو أن جلاء العنف في مجمل أعماله قد أغرى الدارسين والنقاد على تناول تجاربه بالذهاب إلى ما وراء البسيط جدا، على اعتبار أن هذا البسيط هو الشيء المهم الذي ينبغي التعمق به.. ذلك الذهاب الذي يصفه الباحث بأنه “نيء”، و”مُسْتعجل”، جعل هؤلاء الباحثين في وضع لا يبصرون فيه التعقيدات المتداخلة والتفاصيل الصغيرة في أفلام “آرثر بن”.
ويلقي المؤلف الضوء على سينما نكلس ريي، مشيرا إلى شعريات ريي المتينة والبليغة والمتناغمة التي تبوح بحساسية عن الحداثة وما بعدها، حيث استطاع أن يبوح بطريقته الفريدة ولغته الإبداعية للفن التعبيري، بالعديد من أوجه القلق الفلسفي والوجودي الإنساني.
إلى جانب ذلك، يتناول حبيب أفلام الغرب الأميركي بالدراسة والتحليل، إذ أن أفلام الغرب الأميركي الكلاسيكية هي النوع السينمائي الأميركي الوحيد الأقل مقاومة للتعريف، فعلى الرغم من انحسار موجة أفلام الغرب الأميركي مع بداية السبعينات، فإن ذلك النوع من الأفلام لم يواز تاريخ الأمة الأميركية السائدة وتأريخها الرسمي وتاريخ السينما الأميركية فحسب، ولكن أيضا تاريخ نقد النوع السينمائي نفسه ضارب الجذور في أسئلة الغرب الأميركي على نحو لا يمكن اقتلاعه، حيث أن أي سؤال يمكن توجيهه إلى أصول السينما الأميركية، إنما هو سؤال يوجه في الحقيقة إلى نشوء وارتقاء أفلام الغرب الأميركي.
ويرى الباحث أن الفيلم الأسطوري “سرقة القطار الكبرى” الذي أخرجه إدورد إس بورتر عام 1903، لم يطلق فقط النوع السينمائي الذي يُعرف بـ”أفلام الغرب الأميركي”، بل أسس أيضا ما عُرف بـ”السينما السردية” أو “السينما الروائية”.
وفي شهادته “‘أصابع‘.. فيلم شخصي: عن الخلفية، والهواجس، والطموح”، يلقي حبيب الضوء على تجربته في السيناريو والإخراج والترجمة في هذا الفيلم الذي يطمح، كما قال، إلى محاورة سينما المؤلف الأوروبية ليصل إلى محاولة تحقيق “الفيلم الشخصي”، عبر محاورة أخرى لـ”السينما الثالثة” ذات المنشأ الأميركي اللاتيني، وذلك بتوكيد نسخة خاصة من “الجمالي” من دون التضحية بـ”السياسي”.
السينما الثالثة يقوم فيها فريق إنتاج الفيلم بالعمل بطريقة تشبه طريقة عمل وحدة الثوار في حرب العصابات
ويقول عبدالله حبيب إن هذا الفيلم حاور مسألة “الانعكاسية الذاتية”، مُرجعا ذلك إلى اهتمامه بموضوع “التمثيل” بالاستفادة من مفهوم “تأثير الاغتراب” عند بريخت، ومفهوم “الفيلم المقالي” عند غودار.
ويتعمد الفيلم استخدام “النغمة الوتيرية” على مستويات عدة، منها الحوار بين الشخصيتين (رجل وامرأة) الحاضرتين صوتيا والغائبتين بصريا في السرد، ساعيا إلى انتهاك “السرد الخطي”، لصالح “السرد المتشظى”، لأسباب تتعلق باعتقاده أن سرد الحياة اليومية ليس خطيا. وتضمن الفيلم “سوناتا ضوء القمر” لبيتهوفن للتعبير الموسيقي المواكب، فليس فيها صعود أو هبوط ملحوظ، بحيث حاول عبدالله حبيب أن يدغمها مباشرة لتصبح عنصرا (ثيماتيا) في فيلمه.