"حياة".. رواية تتصارع شخصياتها في ميدان الرمل

ليس من اليسر قراءة الروايات الذاتية التي تتخذ من الذات ومن رؤاها انطلاقتها التي تمزج فيها الخيال بالواقع. ورغم التشابك الذي تخلقه هكذا روايات، فإنها في الجانب الآخر توفر متعة كبيرة لقارئها خاصة من حيث اللغة التي تكون مشحونة أو من خلال تعويلها على كشف دواخل الشخصيات وتحريكها من تلك الأماكن المظلمة.
“يستلهم طاهر علوان في عمله الروائي ‘حياة‘، عالما سرديا تتشكل ملامحه من ماض قريب، وبين أسلوب السرد الروائي والسينمائي تتشكل هذه الرواية التي بين أيدينا، لتقدم للقارئ في لغة عذبة حكاية وطن وامرأة، ظلا يؤلفان معا مسارا واحدا يتآخى فيه الظل والصدى، كي تتكون الحكاية التي يسرد من خلالها الكاتب مآلات حزينة للأوطان والأفراد”، هكذا ترى الناقدة لنا عبدالرحمن الرواية في تقديمها لها.
يمكننا قراءة الإطار الذي جاءت به تأويلات المروي – السردي وبناء حكاية الروائية في رواية “حياة” للكاتب والناقد السينمائي العراقي طاهر علوان من خلال مؤشرات إرغامية وضدية متفاعلة أو ناتجة من تفاعل الخصائص النوعية في المادة الروائية شكلا وتمثيلا وإنجازا.
ذاتية الراوي
تشترط إستراتيجية السرد الروائي هنا دلالات موضوعية تهيكل رواية “حياة” من خلال ذلك التوزع المداري في جل محققات التصوير والتشكل السردي والتمحور في داخل علاقات موضوعة النص الذي يتخذ من الأزمات السياسية وثنائية الأحمر ـ الأزرق طورا مديدا في سلوك الشخصيات الروائية.
كما نجد في الرواية النزعات الفئوية القائمة ما بين الأزرقي ـ جسار، حرب تتناحر من خلالها تلك الأطراف الأكثر هيمنة على الأحداث، والتي تتجسد ببلاغة من خلال الأفعال السردية ـ للشخصيات، الأكثر انتقاما من بعضها البعض.
وتغيب جهات الزمن والمكان والتواريخ في واقع السرد. إذ تتمظهر أحداث رواية “حياة” في حدود رقعة مكانية ذات تداخلات تحكمها علاقات فئوية متناحرة في ما بينها كما أسلفنا سابقا، لذا تبقى هذه الأواصر المتنازعة على ظاهرها الحكائي كموضوعة غائرة في تفاصيلها الاجتماعية والسياسية الغالبة.
وقد عبرت البعض من المداخل والعتبات الأولى من النص، حول وصايا ورؤى الشيخ الزاهد، مما يجعلنا ندرك بأن للرواية طابعها القبْلي، أو هي تلك الطبيعة المترسخة في جغرافيا بيئة بدوية بحتة، ثم لتسودها تجارة التهريب وعلى ما يظهر من الأحداث من مواد أخرى محظورة قانونيا.
لكن ما بدا لنا واضحا وغريبا في جهات وعناصر آليات الرواية، هو ذلك الانعدام في مؤشرات الزمن والمكان على وجه من التعرف والتحقق، بل إن هناك انعداما تاما إلى مقادير وحدات التأريخ وحسابات مواقيت الزمن في شكلها المعتمد عليه في تشخيص مكونات موضوعة النص.
لعل الروائي أراد من خلق غياب المحددات المكانية والزمنية والهوياتية، التقليل من نسبة الأضرار الفادحة في كشوفات روايته، خصوصا عندما تكون رواية سيرة ذاتية.
فعلى ما يبدو من النص هناك جملة من الشواهد الحركية والأوصاف الميلودرامية التي تذكرنا كثيرا بالأعمال الدرامية الخاصة في مجال حكايا البادية في صحراء العراق.
عموما هناك آليات ووظائف في بناء النص الروائي، كان قد اعتمدها الروائي بطرائق المنظور (الراوي ـ الشاهد ـ الراصد) وصولا إلى مواقع الأحداث (الخارجية ـ الداخلية) إذ يتخذ السارد المشارك منها موقعا خارج الأحداث تارة وداخلها تارة، ليكون هو الشخصية البؤرية، خصوصا ما صادفناه في بداية فصول الرواية.
إن ذاتية الراوي في النص أحيانا ما تبدو عبارة عن امتداد نوعي لصوت الراوي وصولا إلى صوت الشخصية ثم انفصالها عنه في الآن نفسه، وعلى نحو ما تجد هذه الوظيفة موكلة بالشخصية المحورية ذاتها ودون أي واسطة مباشرة من الراوي نفسه.
أما البناء الداخلي للشخصية المشاركة فيتبين لنا عبر مكونات الأحداث الأولى من زمن الرواية، بأن السارد المشارك ينفذ إلى دواخل الشخوص حتى أنه لا يقوم بنقل مشاعرهم وعواطفهم فحسب، بل ان هذا السارد المشارك يتبع تبئيرا داخليا ثابتا وليس ـ متغيرا خارجيا ـ معولا في الإشارة إلى الحالات الداخلية للشخوص، نجد مثلا في الرواية “أنا معصوب العينين في هذه اللحظة لا تشتغل سوى حواسي الخائفة وحركة ذلك الهيكل الحديدي العامر بالجنود”. فالراوي المشارك يتبنى منظور الشخصية الناظمة ـ العاملة، عبر مكونه وإحساسه الداخلي ـ المعرفي الراصد.
وعلى هذا النحو ندرك أن ما قمنا باستعراضه هو “الراوي المبئر: الشخصية المشاركة”، فهذا السارد يلتزم منظور الشخوص النفسي عبر مكونيه (الداخلي ـ المعرفي الراصد) وما يدل على ذلك هو أن طبيعة السارد المشارك لا يدخل إلى الشخصية إلا بالظن أو الإحساس وطبيعة موقفها الذاتي والموضوعي والانفعالي من طبيعة مكونيه في المنظور الاستعادي وطبيعة موقفه من المسرود إجمالا.
“كانت حياة جديرة بأن أصنع عنها فلما، وليس مهما من أي صنف أو أي نوع ينتمي لكنه فيلم سوف يعيد الذاكرة إلى نصابها ويبقى ذلك العالم الذي عشت في جوهرة وها هو يتجلى أمامي على شاشات عقلي وأنا غارق في العتمة وعيناي معصوبتان”، هنا يسعى الروائي من خلال هذه الوحدات إلى خلق المشهد السينمائي ـ بوصفه تقنية زمنية ـ إذ تسهم الطبيعة النوعية لهذا المشهد في عرض مادة الرواية عبر عتمة زمنية (العصابة السوداء) وهذا الحاجب المعتم هو طابع درامي مميز في نقل فضاء المادة الروائية عبر طاقة كاميرا الزمن المتواتر مع الشخصية الروائية.
أما عن المحكي الروائي ما بين ساحة الرمل والانتقالات اللاحقة فإنها تكرس وعي السرد حتى أننا عندما قمنا بقراءة زمن الأحداث الروائية، ارتأينا معالم الطريق الذي اختطته بعض من الأفكار حول قوى اليمين واليسار، وهذا الأمر بدوره ما برح يطرح في موضوعة الرواية، شتى النزاعات المتداعية بين شخصية جسار الحديد وخصمه الأزرقي.
ونقرأ في هذا الشأن “كان ميدان الرمل صورة لوضع سياسي غريب، وكان انعكاسا لصراعات شتى لم أكن أفهمها ففي كل مرة كان هناك ضابط وإداريون ذوو ميول سياسية مختلفة، مع أنهم في الحقيقة بلا ميول سياسية أصلا، ولكنهم سوف يكونون مجرد براغي صغيرة في ماكنة النظام يجري التصرف بها كيفما شاء من يمتلك عناصر القوة”.
الصراع والأيديولوجيا
عند الإمعان في أحوال ما يسمى بـ”ميدان الرمل” وتلك الفئات من عناصر الضباط ومن هم على شاكلتهم، وما يتعلق بمسار الرؤية، هناك من يمتلك سطوة النفوذ والقوة، ربما كان الروائي يقصد معادلات ترميزية لها الدور المضمر في روايته، ولكن يبقى أصلها عناصر ورموز واسعة وكبيرة مرتبطة بواقع سياسي.
ولكننا هنا سوف نكتفي في حدود ما جاءت به أحداث الرواية، دون أن نغفل ما وراء النص من هيئات مرمزة. ونبين حدود الفضاء العدائي بين سطوة الغلبة وإكراهات المحور المقابل.
يمكننا القول إن الفضاء الروائي وما تحدده الشخصية الرئيسية جسار الحديد والد حياة، يوجب أن نتفاعل مع الشخصية المقابلة المحورية، الحارث بن غياث، حيث أن طبيعة مكونات شخصية جسار الحديد بوصفه ذلك العنصر المترئس الذي يمثل التيار اليميني، من حيث كونه رجلا متغطرسا في طبعه يعد من أرباب مالكي ميدان الرمل الذي هو ساحة تعبوية لغرض الرماية وتعلم فنون التصويب، ولكنه في الآن نفسه على حد تعبير سياق وحدات الرواية “إنه نظام يشبه الرق ونحن نعلم أن الميدان ما هو إلا مصيدة لليسار، وللمنشقين من بين عشرين أو ثلاثين عاملا يختارون يساريا واحدا عاطلا عن العمل وفي وسط دوامة العمل اليومي وزخات الرصاص سوف يخبؤون له رصاصة حقيقية سوف تنطلق باتجاه رأسه”.
وإلى جانب هذا هناك قصص متشبعة يفرزها لنا واقع هذا الكائن الرملي، وعلى ما يظهر فيها من جرائم كقصة سمية التي اكتنف شخصيتها غموض مرتبط بالجريمة كان من أدارها جسار نفسه وأحد من ضابط هذا الميدان كما تعبر عن ذلك الرواية بطريقة أو بأخرى “اختفت سمية وكأن الأرض ابتلعتها وحيث لم يترك سكان الحي وسيلة ما للبحث عنها إلا وساروا وراءها ولكن دون جدوى”.
أما الفضاء الحميمي فيقع بين فرضيات التقارب ووسائط السرد. نجد شكلا فضائيا روائيا مقابلا بالضد من بنية “الفضاء العدائي” والذي يتمثل بشخصية والد الفتاة حياة جسار الحديد، وهو ما يتجسد من خلال ذلك الحنو الوجداني من طرف شخصية حارث حيال حياة، لولا أنها تمتاز ببعض الغطرسة والتعالي، ولكن هذا الأمر لا يغير من مجرى تعلق الشخصية بها “شهور من التجاهل وتلك النظرة غير الملفتة لشيء ولو مررت بالقرب منها عدة مرات ما تنبهت لي، وكان يحيرني ما كل هذا الذي يشغلها ويسيطر على تفكيرها،على الرغم من الصلة القديمة التي تربط والدي مع والدها”.
وضمن هذا السياق تؤشر لنا وحدات السرد تلك العلاقة التي تربط والد حياة بوالد الحارث غياث، مما يجعلنا نتفهم بصورة فورية أن الإثنين (غياث ـ جسار) لا تربطهما في الزمن الحاضر أي علاقة، وذلك لأسباب تتعلق بعدم توافق غياث هذا الرجل الصالح مع غطرسة واعتداد جسار بنفسه، كما أن هناك عدة مسببات رئيسية في مسار الإثنين ما يجعلهما لا يلتقيان في غاية أو هدف واحد.
الرواية متشكلة من الفضاء العدائي وأيضا من الفضاء الحميمي إذ يمثلان جل محاور سياق التصعيد والدلالات فيها
أعود إلى مجال مشاعر وعاطفة الحارث حيال حياة، وكيف صار يختلق الأسباب من أجل لفت انتباهها “في إحدى المرات قررت أن أقوم بمجازفة شديدة السذاجة، وهي أن أرسل لها مجلة خاصة بنجمات السينما أدس فيها رسالة أعبر فيها عن إعجابي واهتمامي بها”.
ونرصد أيضا في رواية “حياة” كيف أن الشخصية الروائية واقعة بين وثوقية الذات وفواعل الحكاية. وسنلاحظ من خلال هذه الوحدة الفرعية من مبحث قراءتنا للرواية، أن مساحة ومستوى المشاهد في النص، تلك المشاهد التي تحكمها مفردات حكائية شكلت منذ البداية بعدا بؤريا، وصولا إلى زوايا كانت على هامش التركيز، ليجعل منها الكاتب بؤرا أساسية في رؤية وخطاب الفاعل المتكلم في الرواية.
من خلال ذلك البناء الروائي ترتسم ملامح وصفات ذات صيغة سايكولوجية نتعرف منها على أدق خصائص الشخصيات وبطرائق نفسية وفنية تدريجية في أطروحة الفاعل المتكلم، فنقرأ “بكل تلك التفاصيل الدقيقة التي انغرست في ذهني من فرط تكرار وجودها في لا وعي، حتى صرت أرى الأشياء في أحيان كثيرة بعيني خالي حسن ومن خلال طريقة تفكيره وتمرده ودفاعه المستميت عن الفكرة التي يؤمن بها”.
وفي الواقع إن ما يمكننا الجزم به تقويما حول ثيمات وآليات ومكونات رواية “حياة” هو أفعالها السردية المشكلة لبنية تحاكي نصوص الدراما الاجتماعية، وهذا الحال ما جعلنا نشعر من خلال قراءتنا لها بأنها رواية مبلورة البناء ومحكومة ببراعة بخصائص الحكي ضمن أشكاله المتباينة للحكاية والمتن الذي من شأنه أن يحوز المادة السردية الروائية في صيغتها الوقائعية الخام. وعلى هذا النحو وجدنا أن أغلب الفصول الروائية مرتبطة بتلك المحددات الوظائفية ومكوناتها وعواملها المفتوحة على مقاربات مرتبطة بالصراع والأيديولوجيا، باعتبارهما العلامة الأيقونية في الرواية وهي ذات علاقة دلالية فاعلة في المقروء الروائي المتخيل.
وتبعا لهذا لاحظنا أن أغلب سياقات الأحداث متصاعدة نحو العنف كفضاء يرتد إلى واقع مادي يتعلق بسقف حياتي كان ملائما بما فيه الكفاية في إثراء النص نحو حصيلة دلالات تركزت بين “علاقات الأضداد” و”معطيات التمثيل الدلالي”.
إننا في الواقع أمام رواية متشكلة من “الفضاء العدائي” وأيضا من “الفضاء الحميمي” ليشكلا جل محاور سياق التصعيد والدلالات الروائية الضمنية والمعلنة.