حوار الطرشان عن الشأن الفلسطيني

بدا كل ما يُقال في الشأن الفلسطيني أشبه بحوار طرشان. اللغة والكلام المحكي يفارقان كل سياقات الواقع ولا يدلان عليه. هذا إن لم يكن التضليل هو الغاية والوسيلة.
هكذا هو الأمر في حوار كل من سلطتي رام الله وغزة مع نفسها ومع الآخرين. فقد سُمع في الساعات الأخيرة بيانان، واحد تلاه رئيس السلطة الفلسطينية في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره النمساوي ألكسندر فان دير بيلين في مقر الرئاسة بمدينة رام الله، الثاني تلته قيادة حماس بعد اجتماعاتها في القاهرة. في الأول قال عباس “إن الديمقراطية هي طريقنا لاستعادة الاستقرار ووحدة الأرض والشعب، والتخفيف من معاناة شعبنا في قطاع غزة ودعم ومساندة أهلنا في القدس”.
وفي هذا الحديث يضع رئيس السلطة الفلسطينية نفسه في موقع النضال الهنيد والباسل النبيل، دفاعا عن ديمقراطيته التي لا ينبغي أن تشوبها شائبة، لأنها ــ حسب ما يقول ــ هي وسيلته الوحيدة لاستعادة الاستقرار ووحدة الأرض والشعب. ذلك علما بأن اللحظة التي تحدث فيها شهدت جرعة جديدة من مجهوداته ــ هو نفسه ــ لزعزعة الاستقرار الاجتماعي الفلسطيني، من خلال قطع رواتب أكثر من خمسة آلاف أسرة جديدة بقرار جديد، لم تبت فيه أي هيئة سياسية أو قضائية وإنما هو قرار كما المعتاد من بنات أفكار الرجل الديمقراطي جدا، ومن خلفيات خصوماته العديدة التي لا مبرر لها وقد طالت أسرا وعوائل لا علاقة لها بأيّ اختلافات في وجهات النظر.
على صعيد آخر، وبينما يحلّ في القاهرة وفد حمساوي على أعلى مستوى، صدر بيان من الحركة الفلسطينية المذكورة لم يتوجّه إلى الجمهور الفلسطيني المعذب بأيّ كلمة تفتح بارقة أمل بانتهاء المعاناة، ولو بدءا من النقاط التي لا تحتاج إلى جهد كبير، لا من الجانب المصري ولا من الجانب الحمساوي في حال كان الجانبان معنيين بتنقية الأجواء تماما ومحاصرة جميع الظواهر السلبية، وإنهاء معاناة الفلسطينيين وليس التركيز على العلاقات الأمنية بينهما وإهمال عمقها الاجتماعي. ولعل من أقرب الأمثلة على ذلك وأقلّها تعقيدا أن يُفرض على العوائل الفلسطينية في سفر العودة إلى قطاع غزة أن تتجمع في العاشرة مساء في نقاط شرقي القاهرة، لكي تستقلّ حافلات إلى منافذ “المعدية” على قناة السويس، التي تنقلها إلى الجانب الشرقي.
وهناك، بعد رحلة بالحافلة لا تحتاج إلى أكثر في ساعة ونصف الساعة في أقصى حد، يتكدّس الناس على حافة القناة لنحو 24 ساعة ويبيتون في السيارات دون أيّ خدمات، وتضطر النساء إلى الصوم عن الطعام والشراب لكي لا يضطررن إلى قضاء حاجتهنّ في ظروف صعبة. وفي مساء اليوم التالي، يُسمح للفلسطينيين بالانتقال إلى الجانب الآخر لقطع مسافة مئتي كيلو متر للوصول إلى العريش للمبيت مرة أخرى، على أن يبدأ النهار الثالث كله على معبر رفح.
الحديث هنا عن الأمر الأسهل وعن الجانب الذي لا يتطلب دقيقتين من النقاش بين أي وفد فلسطيني والجانب المصري، باعتبار أن لا مبرّر لتخليق هذا العذاب، مثلما لا مبرّر على الإطلاق للإغلاق التام والصارم للجسر الكبير الذي اعتاد المسافرون المرور عبره إلى الضفة الأخرى من القناة. فالإرهابيون هُزموا وإن تبقت بعض الشراذم منهم فلا تستحق أن تغلق بسببها الطرق الاستراتيجية، ثم إن العلاقة الراهنة بين المسافات والزمن المطلوب لقطعها بالنسبة للمسافرين الفلسطينيين لا تستند إلى أي منطق، بل إنها تخلق مظنة التعمّد والتقصّد على النحو الذي لا يهيئ مناخات مواتية لعلاقات فلسطينية مصرية بنّاءة، تشدد الخناق على عناصر الشر الإرهابي.
لذا وعلى هذا الصعيد أيضا، يمكن النظر إلى الكلام غير ذي الدلالة الذي لا يؤشر على أيّ تطور إيجابي، ما يجعله نوعا من حوار الطرشان.
وهناك على صعيد فلسطيني آخر من يتحدثون عن تشكيل حكومة فلسطينية وسياقهم، وكأن ليس في الشعب الفلسطيني وليس من القوى الفلسطينية في الداخل والخارج من هم مؤهلون للحكومة إلا المجموعة المحيطة برئيس السلطة. ويُنثر الكلام في هذا السياق كما في حوار الطرشان، فتستخدم مفردات الديمقراطية والإجماع والاستراتيجية التوافقية والضرورة.
ويتكرر الكلام عن ضرورة كذا وكذا دون أن يسأل القائلون أنفسهم لماذا لا يأخذون بهذه الضرورة؟ ثم يُقال إن رئيس الحكومة ينبغي أن يكون من “مركزية” فتح لـ”أن أحد مقومات مواجهة المرحلة والتحديات هو وجود حكومة مرتبطة بالانتخابات”، ولا شيء في هذا المنطق يفسر علاقة هذه بتلك ولا يوضّح أحد ما الفائدة من الحديث عن “ضرورة وجود رؤية استراتيجية لدى فصائل منظمة التحرير لإنهاء حالة الانقسام”، طالما أن الضرورة واضحة منذ العشرات من السنين، ولا تأخذ الأطراف بمقتضاها.
كلام فارغ وبلا معنى، يستهلك به أصحابه الوقت ويمارسون التضليل، بينما الواقع الفلسطيني يزداد سوءا. حبل الثرثرات يمتد ولا ينقطع، وفي موازاته يستمر قطع أكلاف حياة الناس وإدقاعهم وخنق حياتهم، ويظل حوار الطرشان سيد الموقف!