حميد بناني.. مخرج وسيناريست أسّس لسينما مغربية أصلية

أرسى حميد بناني، دعائم ما يعتبره كثير من النقاد والباحثين حجر الأساس للسينما المغربية الجادة والناضجة في فيلمه “وشمة”، رغم أن أفلاما طويلة سبقت فيلم “وشمة” زمنيا، إلا أن هذا الفيلم ظلّ في الذاكرة الجمعية بوصفه أول تعبير فني عن سينما المؤلف المغربية، التي تُحسن استخدام أدواتها الجمالية، وتطرح الأسئلة الوجودية والاجتماعية الكبرى بإحساس مغربي وصياغة بصرية معقولة.
تتجسّد رؤية المخرج حميد بناني من خلال شخصية مسعود، الطفل المتبنّى، أزمة التمزق بين التقليد والحداثة، التي ستبقى منذ ذلك الحين سمة لصيقة بالكثير من الأعمال السينمائية المغربية، ففي طفولة مسعود، نلمس مرارة القهر الأبوي، وصراع النفس المضمر وسط واقع اجتماعي خانق، قبل أن يبدأ في شبابه رحلة تائهة بين اللّهو والمُتع الزائلة، ومحاولات تمرّد رمزية على الأعراف السائدة.
Le Seigneur des Anneaux
غرس المخرج حميد بناني في بطل الفيلم بذور اغتراب عميق، يتجلى في استيهاماته المتكرّرة كشخصية المرأة البومة وفي حضور شخصيات غرائبية تنتمي إلى الواقع لكنها تتجاوز حدوده، مثل مالك الأغنام فاقد الرجلين، بينما استلهم المخرج هذه الرؤية من قراءاته لفكر جان جينيه وجان بول سارتر، خاصة في وصف الأخير ليوميات جينيه واعتبارها نظرية خلق عالم مواز، وهي مقاربة تنطبق على عالم “وشمة” بكل تجلياته، كما عبّر عن كل هذا بلغة سينمائية تمزج بين الرمزية والتعبيرية في الجزء الأول من الفيلم أي مرحلة الطفولة، وبين الواقعية الاجتماعية المشبعة بحسّ شعري في الجزء الثاني مرحلة الشباب، وهذا أرسى منذ البداية اتجاهين رئيسيين سيطبعان السينما المغربية لاحقا: سينما المؤلف وسينما الواقع.

◄ رائد ساهم في تأسيس ملامح السينما المغربية الحديثة
واستند الفيلم إلى خلفية ثقافية وفكرية غنية، فبناني المتأثر بالمذهب الماركسي، والمفتون بالوجودية، كان قارئا نهما لسارتر، ووجد في كتابه القديس جينيه، المسرحي والشهيد مادة إلهامية لبناء مسار مسعود واغترابه، وهذه التأثيرات تتجلّى بوضوح في المشهد الأول من الفيلم، حيث يبرز التناقض بين خطاب أستاذ المدرسة ذي النبرة الماركسية، وخطاب الأب المتشبع بالدوغمائية الدينية، بينما رمّز بناني للتمرّد الطفولي في مشهد سرقة الفاكهة، التي يلتهمها مسعود في الخفاء، كطقس لاستعادة ملكية الذات المسلوبة، فكونه طفلا متبنّى، يعيش في ظل عطاء مشروط، يجعله في موقع وجودي هش، وتُعبّر سرقاته الصغيرة عن مقاومة رمزية ضد منظومة أخلاقية لا تمثّله.
وحوّل بناني الديكور إلى شخصية فاعلة في الفيلم، عندما اختار مكناس ومحيطها، خاصة قرى زرهون، مولاي إدريس، والمغاصيين، لأسباب شخصية وعاطفية، كونها مسقط رأسه وعلاقات عائلية ربطته بتلك المناطق، وأثّرت مواسم الحمادشة، وموسيقاهم الطقسية، في ذاكرته السمعية والحسية، التي يرى فيها البيئة الحاضنة الطبيعية لفيلمه.
وركز بناني على قطيعة الطفل مع الأب في مشهد مفصلي ذي طابع طقسي قوي، حينما يقضي مسعود ليلة كاملة خارج المنزل، قبل أن يُكوى بالنار عقابا له، و هنا يتجاوز العقاب، ليكون تدنيسا يرمز إلى العنف المقدس، فالله وحده يعذّب بالنار بحسب التقليد الإسلامي، والأب ذاته يؤدي طقسا تطهيريا قبل العقوبة، بالغمر في ماء الحوض مقيدا بالسلاسل، كمحو رمزي لأي دافع انتقامي شخصي.
واستفاد بناني من فريق عمل سينمائي متميز، من بينهم عبدالرحمن التازي كمدير تصوير ومُنفّذ بصري ماهر، وأحمد البوعناني في المونتاج، ومحمد تيمود في كتابة الحوارات، وحتى الجوانب اللوجستية تم التعامل معها بروح جماعية: البلدية وفّرت الإقامة، وسكان القرى استضافوا الفريق في بيوتهم، وتولى الفنان الراحل العربي اليعقوبي الطبخ، وكما يقول بناني، فإن “وشمة” ربما كان أرخص فيلم في تاريخ السينما، حسب شهادة نورالدين الصايل.
واعتمد المخرج على تخطيط دقيق لكل اللقطات منذ مرحلة التصوير، إذ أُنجز المونتاج الأوّلي وفق مخطط تقطيع مرسوم مسبقا، كمجرد تنفيذ لما تمّ تصوره ذهنيا منذ البداية، بينما استفاد في مرحلة ما بعد الإنتاج من دعم كبير من الراحل عمر غنام، مدير المركز السينمائي المغربي آنذاك، الذي وفّر له مجانا غرفة المونتاج، والمختبر، وقاعة الصوتيات في عين الشق، وكان مهندس الصوت الألماني هانز كلين من الداعمين الرئيسيين في إخراج المؤثرات الصوتية على أكمل وجه.
وسجّل الموسيقى التصويرية الموسيقي الفرنسي دومينيك هيلبوا، صديق بناني، وأستاذ الموسيقى بوجدة، الذي ارتجل مقاطع الفيلم على آلة التشيلو المحببة إلى قلب المخرج، دون مقابل مادي، وبهذا الصوت الوحيد، ارتفعت موسيقى الفيلم كصدى لاغتراب الشخصية الرئيسية، وهمومها الوجودية، بينما شهد الفيلم عرضه الدولي الأول في “أيام قرطاج السينمائية” عام 1970، وحصل على “التانيت البرونزي”، ثم تابع رحلته الناجحة في أوروبا، بدءا من السينماتيك الفرنسية، حينما قدمه هنري لانغلوا، ومنحته جائزة “جورج سادول”. شارك بعدها في مهرجانات “كان” أسبوع المخرجين، ودمشق، ومانهايم، وهيير، لكن واجه الفيلم في المغرب عراقيل توزيع شديدة، إذ كانت شركات أجنبية تحتكر السوق وتمنح الأولوية للأفلام الفرنسية والأميركية، ولم يُعرض “وشمة” إلا لفترة قصيرة في القاعات، وكان تبنّيه من طرف النقاد والصحافة المحلية متأخرا، ولم يتحقق فعليا إلا بعد نجاحاته الدولية.
واحتفل مهرجان “أيام قرطاج السينمائية” عام 2020، في دورته الـ31، بالذكرى الـ50 للفيلم، بتكريم خاص لحميد بناني، رغم صعوبة حضور المخرج شخصيا بسبب ظروف جائحة كوفيد – 19 والإجراءات الصحية المشددة آنذاك، وتوقّف بناني عن إخراج الأفلام الطويلة لمدة عشرين عاما بعد “وشمة”، وبدلا من أن يدفعه النجاح للمضي قُدما، جعله يدخل في حالة من النشوة والتأمل وانشغل في تلك الفترة بإخراج أفلام تلفزيونية وأخرى وثائقية لحساب وزارات ومؤسسات عمومية، قبل أن يعود لاحقا إلى السينما بروح جديدة.
اقتباس من الأدب
واصل المخرج المغربي حميد بناني مسيرته السينمائية الطويلة بعد خمسة وعشرين عاما من فيلمه المؤسس “وشمة”، بفيلم ثان حمل عنوان “صلاة الغائب” 1995، وهو مقتبس عن رواية بنفس العنوان للطاهر بنجلون، لكنه لا يقل أصالة وتجذرا في الروح المغربية، إذ بنى هذا الفيلم كما سيفعل لاحقا مع باقي أعماله، على نص كتبه بنفسه، لأنه لا يشتغل في السينما إلا على سيناريو من تأليفه، على عكس ما يقوم به في التلفزيون، حيث يعتمد أحيانا على كتّاب سيناريو آخرين.
واستلهم مشروع هذا الفيلم من تراكب عدة تجارب شخصية عاشها بناني في طفولته، من أبرزها مشاركته في ليال حمدوشية داخل منزل عمته، وتعرضه لتأثيرات قوية من طقوس وموسيقى الطوائف الدينية المغربية، كما جاء الفيلم امتدادا لرحلة إلى الجنوب المغربي زار فيها ضريح بويا عمر، برفقة أصدقاء منهم محلل نفسي معروف، وهذه الزيارة بقيت عالقة في ذاكرته، حتى أنه وجد صداها لاحقا في رواية بنجلون، التي قرر على إثرها إنجاز الفيلم.
واختار بناني الاحتفاظ بعنوان الرواية رغم أنه أجرى اقتباسا حرا لها، حيث أضاف إليها الكثير من العناصر الجديدة التي لم تكن موجودة في النص الأدبي، كترقية سينمائية للنص الأصلي، باعتبار الفيلم أكبر من الرواية بكثير.
◄ حميد بناني لا يشتغل في السينما إلا على سيناريوهات من تأليفه الخاص على عكس ما يقوم به في التلفزيون
وافتتح الفيلم بلقطات أرشيفية لأحداث 20 أغسطس 1953 بفاس، مرتبطة بانتفاضات المغاربة ضد الاستعمار الفرنسي، وذلك بسبب محدودية الميزانية، التي لم تسمح بإعادة بناء المشاهد التاريخية، وصوّر بعد ذلك المشاهد الروائية الأولى في فاس العتيقة، التي شكّلت مسرحا لنصف أحداث الفيلم تقريبا، ونقل بين فاس وسلا والرباط والجديدة والصويرة لسيدي كاوكي، حيث وظّف الفضاءات المفتوحة والمغلقة بتنويع بصري أعطى للفيلم حيوية خاصة، وساعد على ذلك عشق الطاقم والممثلين للتنقّل والتصوير في أماكن جديدة، ما خفف من صعوبات التنقل.
وعزّز الفيلم حضوره التعبيري من خلال موسيقى حاضرة بقوة منذ اللقطة الأولى وحتى النهاية، ورغم أنه أقرّ لاحقا بأن حضور الموسيقى كان فيه بعض المبالغة، إلا أنه رأى ذلك ملائما للمرحلة التي أُنتج فيها الفيلم، بالنظر إلى ما تحمله الموسيقى من طابع روحي وانفعالي متصل بموضوع العمل، بينما استثمر قدرات تقنيين مغاربة متمرّسين وأجانب محترفين في إنجاز الفيلم، دون أن يتنازل عن مركزية دوره كمخرج في توجيه الفريق، فاختيار زوايا التصوير، وأحجام اللقطات، وتقنيات التقطيع، تظل جميعها مسؤولياته المباشرة، وركّز كذلك على ما هو أهم من التقنية، وهو الاشتغال العميق مع الممثلين، في بناء الشخصيات المتخيلة داخل الكاميرا كإبداع مشترك بينه وبينهم.
واستفاد من أداء مقنع لمجموعة من كبار الممثلين المغاربة، مثل حميد باسكيط، السعدية أزكون، أحمد الطيب لعلج، الطيب الصديقي، ومحمد مجد، بينما لاحظ تفاوتا في الأداء لدى بعض الأدوار الثانوية مثل دور ألان فيراري، الذي أُسند إليه دور صغير كأستاذ المختار، رغم كونه مساعدا في الطاقم، وصُوّر الفيلم أصلا باللغة الفرنسية، نزولا عند رغبة شريك في الإنتاج، ثم دُبلج لاحقا إلى الدارجة، في خيار وصفه المخرج بأنه غلطة.
أدار بنفسه عملية الدبلجة في باريس، مستخدما أصوات الراحلين حميدو بنمسعود، ثريا جبران، وعبدالواحد عوزري، وآخرين، لكنه لم يتمكن من استدعاء كل الممثلين الأصليين بسبب ضيق الميزانية، وهذا دفعه للاستعانة بالممثلين المقيمين بباريس، وأدخل أبناءه في العمل السينمائي كمشاركة شخصية ووجدانية، إذ جسّد ابنه سليمان دور الطفل في الفيلم، وظهرت ابنته جازية في مشهد داخل الحافلة، وساعدته ابنته الكبرى نادجة داخل بلاطو التصوير. كان ذلك بالنسبة إليه نوعا من التوثيق العائلي بالصورة والصوت، وذكرى جميلة تشاركوها جميعا خلال مرحلة التصوير.

◄ أعمال المخرج اتسمت بطرحها لقضايا اجتماعية بأسلوب إنساني ووواقعي، بينما امتد إبداعه إلى الكتابة الروائية أيضا
وطرح الفيلم من خلال شخصياته المختلفة ثلاث أطروحات فلسفية حول التصوف: أطروحة تعتبره تخريبا للحضارة الإسلامية، وثانية تراه شكلا من أشكال الهروب من الواقع، وثالثة تعتبره خلاصا فرديا من الأوجاع الدنيوية، لكنه كمخرج، لم يحدّد موقفا واضحا من أيّ من هذه الأطروحات، مؤكدا لا يشغل نفسه بمثل هذه القضايا، وإنما يهتم أكثر بمصير الشخصيات ومغامراتها الفردية، تاركا للمتفرج حرية التأويل والحكم.
Je suis désolé
يُعدّ حميد بناني من أبرز الأسماء التي ساهمت في تأسيس ملامح السينما الغربية الحديثة، فقد انطلقت مسيرته الفنية من تكوين مبكر في الفن إذ وجد في المسرح والسينما وسيلة للتفكير والتمثيل، وتابع دراسته الثانوية في مؤسسات تعليمية عريقة مكناس، قبل أن ينتقل إلى الرباط ليتعمق في دراسة الفلسفة بكلية الآداب، وهو المسار الذي شكّل خلفيته الفكرية وترك أثرا واضحا في طبيعة اختياراته الفنية والنقدية، ثم اختار أن يغوص أكثر في الفن السابع، فالتحق بأحد أرقى المعاهد السينمائية بباريس، ودرس الإخراج والإنتاج، وبرز اسمه ضمن الطلبة المتفوقين إلى جانب أسماء مغربية لامعة، وخلال هذه المرحلة، حضر ندوات ومحاضرات لعدد من كبار الفلاسفة والمفكرين.
وخاض بناني بعد عودته إلى المغرب تجربة العمل داخل المؤسسة الإعلامية الرسمية، لكنه سرعان ما فضّل الاستقلال الفني، فأسّس شركة إنتاج سينمائي بالتعاون مع مجموعة من المبدعين المغاربة، وشكلت هذه الشركة فضاء للتجريب وتقديم أعمال ذات بصمة مغربية أصيلة، وكان أول أفلامها الروائية الطويلة علامة فارقة في تاريخ السينما الوطنية.
وعلى امتداد مسيرته، أنجز حميد بناني مجموعة من الأعمال السينمائية التي تراوحت بين التعبير الرمزي والتأمل الفلسفي، من بينها: “الخادمات”، “من القلب إلى القلب”، “وشمة”، “صلاة الغائب”، “الطفل الشيخ”، و”ليالي جهنم”. كما ترك بصمته في مجال الدراما التلفزيونية من خلال أعمال بثت على القناتين الأولى والثانية، مثل: “الواد”، “السراب”، “خريف الأحلام”، “وهم في المرآة”، “الضيف”، “الحلم الصغير”، و”النور في قلبي”، وكلها اتسمت بطرحها لقضايا اجتماعية بأسلوب إنساني ووواقعي، بينما امتد إبداعه إلى الكتابة الروائية أيضا، وأصدر رواية بعنوان “آخر أغنية للمتمردين”، وبهذا يظل حميد بناني فنانا متعدّد المشارب، جمع بين العمق الفلسفي والصدق الإبداعي، وساهم في بناء وعي فني مغربي مستقل ومتجذر.
![]() |
![]() |
![]() |
☚ على امتداد مسيرته، أنجز حميد بناني أعمالا سينمائية تراوحت بين التعبير الرمزي والتأمل الفلسفي