حملات المقاطعة سلاح المجتمعات العربية لتعديل الأسعار

باتت حملات المقاطعة سلاحا فعالا للمجتمعات العربية للضغط من أجل تغيير القرارات الرسمية والممارسات الخاطئة، وبمجرد تدشين حملة مجتمعية أو وضع هاشتاغ معين يحض على المقاطعة، على مواقع التواصل الاجتماعي، تتفجر موجات من التعليقات الساخرة، غالبا ما تدفع صاحب القرار في النهاية إلى تغيير وجهته، والرضوخ لمطالب هذه الفئة أو تلك من المجتمع.
ظل إصدار القرارات في غالبية المجتمعات العربية يتخذ طابعا فوقيا، بصرف النظر عن ردود أفعال المواطنين تجاهها، تحت ذريعة: إن لكل قرار مستفيدين ومتضررين، قبل أن تكتسب الجماهير قوة نابعة من إشهار ورقة المقاطعة التي تمنحها حق “الفيتو” أو الاعتراض على أي قرار جديد أو وضع اجتماعي مستهجن.
وقد اضطر الاتحاد المصري لكرة القدم أخيرا إلى تعديل أسعار تذاكر مباريات بطولة كأس الأمم الأفريقية التي ستستضيفها مصر في يونيو المقبل، بعد أقل من 24 ساعة من إعلانها تحت ضغط من حملة مجتمعية على مواقع التواصل الاجتماعي حملت عنوان “خليها (اتركها) فاضية”، في إشارة إلى عدم حضور الجمهور للمباريات.
ورغم تعهد وزارة الشباب والرياضة بالوصول إلى سعر مناسب لحضور المباريات التي يكون المنتخب المصري طرفا فيها، لم تهدأ الحملة وواصلت أنشطتها للوصول بقيمة التخفيض إلى النصف ليصبح سعر لتذكرة من الدرجة الثالثة بخمسة دولارات، و10 دولارات للدرجة الثانية، حتى تتماشى مع النسخة السابقة للبطولة التي استضافتها الغابون في 2017.
شهدت حملة “خليها فاضية” مشاركة واسعة من جميع أطياف المجتمع، فالهوس بكرة القدم لم يعد مقتصرا على الذكور بل ضم أطيافا مختلفة من المجتمع؛ أطفالا ونساء وشيوخا، وذلك على اعتبار حضور المدرجات متعة استثنائية للطبقات الفقيرة التي تقتصد من نفقاتها الشهرية للخروج من حيز الوحدات السكنية الضيق والشعور بالسعادة عند الهتاف مع الجماهير في المدرجات.
ومالت حملة “خليها فاضية” عن مجال كرة القدم لتتضمن قصفا لسياسات الحكومة الاقتصادية التي انعكست على حياة المجتمع، أو إكساب قرار مثل قصر حجز التذاكر على التسجيل الإلكتروني ببيانات كاملة، طابع المؤامرة كمقدمة لحذف من يحضر المباريات من قائمة الانتفاع بالدعم التمويني رغم أن هدفه الأصلي منع المتاجرة بها في السوق السوداء.
وتشبه حملات المقاطعة كرة الثلج حيث تكتسب أرضية واسعة كلما تدحرجت، لتجذب نشطاء في المجتمع يتبارون في سرد حيثيات منطقية تدعم آراءهم، فبعد دقائق من إعلان أسعار تذاكر كأس أفريقيا، كانت مواقع التواصل تعج بإحصائيات ومقارنات شاملة بينها وبين البطولات العربية والعالمية خلال آخر 10 سنوات، وجميعها تراعي خصوصية المجتمع.
يقول مصطفى عيد (35 عاما) إن الضغط المجتمعي كان صاحب الفضل الأول في مراجعة أسعار تذاكر الدرجة الثالثة التي يقبل عليها الشباب والطبقات الفقيرة وهي العصب الرئيسي للتشجيع في الملاعب العربية.
تفتح حملات المقاطعة المجتمعية مجالا واسعا للانتقاد دون معرفة الهوية الحقيقية للشخص ما يعطيه جرأة أكبر على التعبير والمشاركة في توجيه سير الحياة في المجتمع الذي يعيش فيه، فلم يعد الجمهور منفذا سلبيا للتعليمات أو راضيا بما يفرض عليه، بل من حقه المشاركة والاعتراض بصورة حضارية.
وتكتسب هذه الحملات زخما كبيرا حال وقوف الكثير من الطبقات خلفها، بصرف النظر عن مستوى الفقر أو الثراء، وهو ما تحقق مع “خليها فاضية” التي لاقت تأييدا من رياضيين معروفين مثل أحمد حسام (ميدو) وهيثم فاروق وإبراهيم سعيد، وفنانين مثل نبيل الحلفاوي وندى بسيوني ومحمود البزاوي.
تطور مستمر
إن الحملات تطوّر من أساليبها باستمرار، فلم تعد مكتفية بالتعليقات أو مقاطع الفيديو التقليدية لتوظف الرسوم البيانية والجداول والفيديوغراف والأنفوغراف لتحقيق القناعة الكاملة بين المنضمين إليها.
يؤكد عيد لـ”العرب” أن مهندسي الحملات في الواقع الحقيقي أو الافتراضي باتوا واثقين من الوصول إلى أهدافهم، طالما أنها تمس الأوضاع المعيشية للمجتمع، فحتى الأغنياء من مصلحتهم أن يحصلوا على السلعة أو الخدمة بسعر عادل، مهما كانت إمكانياتهم المالية، ولا يتعرضون للتضييق في حريتهم الشخصية.
وتكتسب الحملات الآن قدرة عالية على التغيير في الكثير من المجتمعات، وهو ما ظهرت تجلياته في مصر خلال الأسابيع الماضية، ونجحت في تعديل عدد كبير من القرارات التي تهمّ شريحة كبيرة في المجتمع.
ويمثل انضمام المشاهير إلى تلك الحملات مصلحة واضحة للطرفين، حيث تمنحهم شعبية أكبر باقترابهم من مطالب البسطاء، وتحشد جمهورهم للمشاركة، حتى أن تغريدة محمد صلاح على صفحته بـ”تويتر” التي انتقد فيها أسعار تذاكر كأس الأمم الأفريقية تم تداولها بين الآلاف الأشخاص خلال دقائق معدودة فقط، وهو ما يؤكد ارتفاع مستوى التأثير في المجتمع.
أصبحت كلمة “خليها” صداعا مزمنا في رأس الكثير من المسؤولين العرب، فدائما ما ينالهم من الكملة التي تتبعها ألسنة نقد باعتبارهم المعنيين بالمتابعة والرقابة، ليتم توظيف تلك الحملات في كافة المجالات الحياتية، مثل “خليها تصدي (السيارات)” و”خليها تحمض (الفواكه)” و”خليها تعفن (اللحوم)” و”خليها تكاكي (الدواجن)” و”خليها تفلس (سيارات النقل الذكي)”.
وسط المعركة الإلكترونية ضد أسعار تذاكر المباريات كانت المغرب تشهد حملة مشابهة تشجع المستهلكين على مقاطعة الألبان والمحروقات والمياه المعدنية لارتفاع أسعارها بعنوان “خليه يريب (يفسد)”، و”بنزينكم أحرقوه”.
سلاح قوي
يوضح محمود العسقلاني، رئيس جمعية مواطنين ضد الغلاء، أن حملات المقاطعة الإلكترونية سلاح قوي في أيدي المجتمعات ضد مواجهة جميع أشكال الاستغلال والجشع، وتستغلها بعض الأنظمة السياسية للقيام بدور مواز في ضبط الأسواق التجارية أو انتقاد ظواهر اجتماعية تعجز عن مواجهتها.
ربما يحمل تشجيع السلطات الرسمية للمجتمعات على حملات المقاطعة محاولة لتجنب سيناريوهات أسوأ، كتحول الأمر إلى مظاهرات احتجاجية في الشوارع تنقلب إلى موجات من الاحتكاك مع الأجهزة الأمنية كما حدث في بعض دول الربيع العربي، التي رفع المتظاهرون في بدايتها مطالب تتعلق بالحياة الاجتماعية الكريمة قبل أن تنقلب إلى طموحات بالتغيير السياسي.
يبدو أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من أنصار ذلك الاتجاه، ففي غالبية الفعاليات المحلية التي يحضرها يعلن تأييده لحملات المقاطعة للسلع المُغالى في أسعارها، ليرمي الكرة في ملعب المصنعين والتجار، وتقدم الحكومة أيضا دعما مبطنا لها بالتركيز على تلك الحملات الإلكترونية واستضافة القائمين عليها باستمرار في وسائل الإعلام الرسمية.
حملات المقاطعة معركة ذات نفس طويل، نجاحها مرهون بقدرة المجتمع على الاستمرار حتى الوصول إلى أهدافه كاملة
في الموجة الأولى لحملة المقاطعة التي دشنها مواطنون من المغرب قبل عام، اضطرت شركة للحليب إلى التخلص من كميات هائلة من إنتاجها، ورفضت المقاهي عرض زجاجات المياه المعدنية التي تنتجها الشركة تحاشيا لغضب المجتمع، وراهن البعض على مضي الوقت لتعيد الكرة التي دفعت معها تنظيم موجة جديدة من المقاطعة المجتمعية لتحمل هجوما أعنف أخيرا.
لجأ وكلاء السيارات في مصر إلى خفض أسعار بعض الماركات بقيمة تصل إلى 4 آلاف دولار، مع تكدس بضاعتها في الجمارك دون شراء على وقع “خليها تصدي” التي تحولت إلى حملة مجتمعية دائمة على أداء السوق وبمثابة سيف مسلط على رقاب التجار والوكلاء التجاريين لمصلحة المستهلكين.
يشير العسقلاني لـ”العرب” إلى أن النجاح المجتمعي لحملات المقاطعة الإلكترونية مرهون بعدم تشتت الجهود في صفحات أو هاشتاغات متعددة، فكلما كانت هناك صفحة واحدة تضم جميع أطياف المجتمع كلما زادت مخاوف صناع القرار من الهجوم الذي يتعرض إليه وبات يفكر ألف مرة قبل الإعلان عنه خوفا من الجمهور.
ما يزيد المخاوف من حملات المقاطعة تحوّلها إلى وسيلة تفريغ نفسية جماعية برسوم الكاريكاتير والكوميكس والسخرية المفرطة، والغوص أحيانا في قضايا قديمة، ليمتد النقد من دائرة المشكلة الأساسية إلى باقي المشكلات الاجتماعية. وتعتبر حملات المقاطعة معركة ذات نفس طويل، حيث إن نجاحها مرهون بقدرة المجتمع على الاستمرار حتى الوصول إلى أهدافه كاملة، لكن الدارج في حملات الغلاء هو حدوث موجة شراء عنيفة بمجرد نزول الأسعار بنسب بسيطة، ليخلق الطلبُ المتزايد محركا لها للارتفاع مجددا.
ربما يعبر أحمد مجاهد، منسق اللجنة المصرية المنظمة لكأس أفريقيا عن تلك الفرضية، بتأكيده أن اللجنة تلقت عشرات الآلاف من طلبات حجز تذاكر مباريات منتخب مصر (بالأسعار القديمة قبل تعديلها)، مراهنا أنه إذا طبعت مليون تذكرة سيتم بيعها مهما كان السعر.
ويرى خبراء الاجتماع أن تزايد أعداد هذه الحملات تكسب المجتمعات خبرة مستمرة في كيفية التنظيم فبعدما فشلت حملاتها أكثر من مرة في الاستمرار استفادت من الأخطاء السابقة، وتعيد شحن المنضمين إليها بفعاليات جديدة حتى لا تبتعد الأضواء عنها وتفتر جهود القائمين عليها.
لجأ منظمو “خليها تصدي” في مصر إلى إطلاق أغنية مصورة أخيرا بعنوان “مش هنحلها ودى (لن نحله وديا).. خليها تصدي” ساهمت في رفع عدد المشاركين فيها من 200 ألف إلى 700 ألف شخص خلال أسبوعين فقط، ما يعني إمكانية انتشارها وغيرها لتنخر في قواعد المجتمع ولتمثل تهديدا سياسيا لافتا.
ويؤكد جمال فرويز، أستاذ علم النفس السياسي، أن الإرادة المجتمعية أثبتت نجاحها في حملات المقاطعة، لأنها كانت بعيدة عن أي مصالح تجارية للمنافسين أو شخصية للقائمين عليها، ففي بطولة كرة القدم لا يوجد مستفيد من رفع سعر التذكرة، وبالتالي شارك الجميع بنية صافية فيها.
رقابة على المسؤولين
كلما ابتعدت الحملات عن سرد علامات تجارية بديلة للتي تدعو إلى مقاطعتها اكتست أرضية أوسع في المجتمع باعتبار أنها لا تتضمن ازدواجية في المصالح، لكن العكس صحيح بالنسبة للحملات الموجهة ضد قرارات رسمية وتعتمد على قدرة المنظمين على توظيف الأدلة والسياقات المنطقية التي تقنع بها الجمهور للانضمام إليها.
ويضيف فرويز لـ”العرب”، أن التواصل الكبير بين المجتمعات يضيق الخناق على من يتعرضون لحملات مقاطعة لأن العدوى تنتشر بينها، وبالتالي إذا حاولت شركة الهروب من السوق المحلية والانتقال إلى أخرى مجاورة سرعان ما تجد الموقف ذاته في انتظارها.
ويخلق انتشار حملات المقاطعة نوعا من الرقابة المسبقة على المسؤولين. ويشترط مسؤولون قبل ظهورهم في الفضائيات حاليا منع تلقي اتصالات على الهواء أثناء استضافتهم وعدم رفعها على صفحة القناة الإلكترونية وتعطيل خدمة التعليقات على المقاطع المنشورة على موقع يوتيوب، تحاشيا لتعرضه لموجة هجوم من شرائح مختلفة في المجتمع حتى لو كانت القضية لا تتضمن مشكلة أو كان اللقاء مرتبطا بطبيعة حياتية صرفة.
يعتمد نجاح حملات المقاطعة على الابتعاد عن الغوص في الحياة الخاصة والتجريح واستخدام عبارات بذيئة، ما يسبب شعورا بالنفور منها، وتتحول المقاطعة إلى تعاطف مع مصدر القرار وليس حملة موجهة بهدف تقييم الأداء بما يصبّ في صالح المجتمع.