حمد بن حمد الشعيلي: التاريخ العُماني وسيلة لبناء مجتمع منفتح على العالم

الفنون الشعبية التقليدية سمة بارزة للتنوع الثقافي في سلطنة عمان التي تزخر بتاريخ متشابك يتميز بثرائه وتأثيره.
الثلاثاء 2025/06/24
الثقافة والفنون تحكيان تاريخ عمان

مسقط- يشكّل التاريخ لكل أمة ذاكرتها وهويتها، فهو المرآة التي تعكس التطورات والصراعات والتحولات الكبرى للأمم، وفي سلطنة عُمان تتشابك الحضارة مع البحر، والتاريخ مع الجغرافيا والإنسان، فيبرز عدد من الباحثين الذين كرّسوا جهودهم لفك رموز هذا التاريخ الثري، وتقديمه بصورة علمية موثقة للأجيال الحاضرة والقادمة، مستندين في ذلك على الوثائق والمصادر ومتتبعين لخيوط السرد من زواياه المختلفة سواء في العلاقات الدولية عبر العصور أو التاريخ البحري أو الحياة الاجتماعية والثقافية، فأسهمت بذلك دراساتهم ومؤلفاتهم ومشاركاتهم الأكاديمية في بناء فهم أعمق لمكانة سلطنة عُمان التاريخية في الإقليم والعالم.

يقول الدكتور محمد بن حمد الشعيلي، الباحث في التاريخ العُماني، عن كتابه الذي صدر مؤخرًا “عُمان في ذاكرة الخريطة”، إن فكرة الكتاب في الأساس تعود إلى معرض عُمان في الخرائط التاريخية والعالمية، الذي أقيم في ديسمبر 2018، في محافظة مسقط، والذي ضم أكثر من 90 خريطة متنوعة، تنتمي في أصلها إلى دول عدّة، وتحكي في تفاصيلها جزءًا كبيرًا من تاريخ وحضارة عُمان عبر الفترات الزمنية المختلفة، والذي حقق بدوره نجاحًا كبيرًا كونه يقام لأول مرة في سلطنة عُمان، الأمر الذي ولد لديه فكرة إعداد وتقديم برنامج تلفزيوني حمل اسم ‘بوصلة‘، وعرض في 30 حلقة في شهر رمضان.”

 الخرائط التاريخية تعكس مكانة سلطنة عُمان الإستراتيجية والحضارية عبر العصور
الخرائط التاريخية تعكس مكانة سلطنة عُمان الإستراتيجية والحضارية عبر العصور

ويضيف أنه بعد نهاية عرض البرنامج بدأ في إخراج المادة العلمية الخاصة بحلقات البرنامج مع الخرائط، في صورة كتاب بعنوان ‘عُمان في ذاكرة الخريطة‘، لتوثيق المعلومات التي ذكرت، والخرائط التي عرضت، وذلك حتى يستفيد القارئ من المعلومات الواردة في تعزيز ثقافته عن الدور التاريخي والحضاري لسلطنة عُمان.”

ويؤكد على أن الخرائط التاريخية تعكس مكانة سلطنة عُمان الإستراتيجية والحضارية عبر العصور فأهميتها لا تتوقف عند كونها مجرد وسائط جغرافية وعلمية مساندة، وإنما تتجاوز حدود ذلك، وبالنسبة إلى سلطنة عُمان، فإن الخرائط تعد من الوسائل المهمة التي تعكس الاهتمام بها من قبل المؤرخين والجغرافيين والرحّالة بمختلف انتماءاتهم، وتحكي في تفاصيلها جزءًا كبيرًا من تاريخها وحضارتها عبر الفترات الزمنية المختلفة.

ويوضح أن التاريخ العُماني يشكل مكونًا أساسيًّا ووسيلة مهمة نحو بناء مجتمع وطني معتز بهويته ومنفتح على العالم، فهذا التاريخ الحافل بالكثير من الإنجازات يمكن استثماره في رفع مشاعر الانتماء والولاء تجاه الوطن وما تحقق له عبر الفترات الزمنية المختلفة من تاريخه، والعمل على الاستفادة من سير وعطاء رموزه التاريخية المختلفة التي قدمت الكثير لصالح هذا الوطن.

وكون سلطنة عُمان تتمتع بتاريخ طويل ومعقد من التنوع الثقافي، يقول الشعيلي إنه على الصعيد الداخلي تحظى سلطنة عُمان بطابع ثقافي مميز سببه تنوع العادات والتقاليد والموروثات الخاصة بمحافظاتها ومناطقها الجغرافية المختلفة، أما على الصعيد الخارجي فقد تمكنت سلطنة عُمان من بناء علاقات حضارية مع مختلف الحضارات والأمم والشعوب، المجاورة منها والبعيدة، بوسائل عدة، من أبرزها التجارة عندما استثمر العُمانيون موقع بلادهم المميز ونشاطهم الاقتصادي الذي عرفوا به في بناء علاقات مع غيرهم من الشعوب، وكذلك مساهمتهم في نشر الإسلام وخدمة الدولة الإسلامية في مواقع كثيرة.

ويضيف أن هذه العلاقات أسهمت أيضًا في تعزيز النفوذ السياسي لها في بعض الفترات الزمنية عندما ضمت الإمبراطورية العُمانية قوميات وعرقيات مختلفة في ممتلكاتها الآسيوية والأفريقية والهجرات المتبادلة من سلطنة عُمان وإليها، مؤكدًا أن كل ذلك التداخل المحلي والخارجي أسهم في وجود تنوع واضح ونسيج حضاري مميز، أصبح ملاحظًا في اللغات واللهجات المختلفة، وفي الفنون الشعبية التقليدية التي أصبحت سمة بارزة للتنوع الثقافي، وأيضًا في الجوانب الاجتماعية المرتبطة بالعادات والتقاليد واللباس والأكلات المختلفة، علاوة على الجوانب العمرانية بتأثيراتها المختلفة المحلية منها والخارجية، وغيرها من الجوانب الأخرى التي يمكن من خلالها أن نلحظ وجود تنوع كبير في مكونات المجتمع العُماني.

وفي الحديث عن إمكانية أن يكون للثقافة العُمانية التقليدية، بمختلف أشكالها مثل الفلكلور والموسيقى والرقصات الشعبية، جسر للتواصل الثقافي بين سلطنة عُمان وبقية العالم، يبيّن أن لغة الموسيقى تعرف بأنها لغة عالمية تتجاوز الحدود الثقافية واللغوية بين الشعوب، وهو ما ينطبق أيضًا على الموروثات الشعبية المرتبطة بها مثل الفلكلور والفنون التقليدية.

وتعد سلطنة عُمان من الدول التي تتميز بفنونها الشعبية متوزعة بين محافظاتها المختلفة، وهي تشكل أداة مهمة للتعريف بالثقافة العُمانية من خلال المشاركة في المناشط والفعاليات سواء المحلية منها التي يمكن لها أن تثير فضول وإعجاب السائح بهذا التنوع الذي تحظى به، أو من خلال المشاركة في المناشط والفعاليات والمهرجانات العالمية، ويمكن لها بالتالي التعريف بما تتميز به سلطنة عُمان من تنوع وثراء في موروثاتها الثقافية المختلفة، والتي يمكن استغلالها في الترويج الخارجي للسياحة، وحتى في إنتاج مشروعات ثقافية وإعلامية كثيرة.

في دولة بحجم سلطنة عُمان في تاريخها وحضارتها، فإن الاهتمام بهذا الجانب أصبح كبيرًا سواء على الصعيد المؤسسي من خلال المؤسسات الرسمية، أو على الصعيدين الشخصي والمجتمعي

أما عن تأثير العولمة على الثقافة العُمانية، ومع تزايد الانفتاح على العالم، فيقول إنه لا يمكن إغفال تأثيرات العولمة على ثقافة الدول وموروثاتها المكتسبة، فنحن نعيش في عالم أصبح فيه الانفتاح كبيرًا بشتى أنواعه، لذلك فنحن على أعتاب مسؤولية كبيرة في الحد من تأثيرات العولمة والانفتاح على ثقافاتها وهوياتها، حيث إن سلطنة عُمان ليست بمعزل عن العالم الذي تؤثر فيه وتتأثر به، خاصة في ظل التسارع الحاصل في استخدام التكنولوجيا والتقنيات الحديثة وتأثيرات الوسائل الإعلامية ومواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي وما قد يترتب عليها من التأثر بأفكار تنعكس على الثقافة العُمانية.

وفي السياق ذاته أكد على أن سلطنة عُمان تعرضت عبر تاريخها الطويل للكثير من القوى الخارجية التي حرصت على السيطرة عليها أو على أجزاء منها عبر فترات متفرّقة من تاريخها، في الوقت الذي اتسع فيه النفوذ العُماني في الخارج وضم العديد من المناطق في الخليج والمحيط الهندي إلى الدولة العُمانية، بالإضافة إلى التواصل الحضاري مع العديد من الشعوب والأمم، هذا الأمر أوجد بيئة خصبة لعملية التأثير والتأثر بين العُمانيين والشعوب الأخرى، وهذه التأثيرات بما فيها الفارسية والهندية والبرتغالية أصبحت ملاحظة في جوانب عدة، مثل اللباس والعمارة والمطبخ وغيرها، أو في جوانب اقتصادية مرتبطة بأساليب التجارة، بالإضافة إلى التأثيرات المرتبطة باللغة، التي خالطتها مفردات خارجية لا زال بعضها مستخدمًا إلى غاية يومنا هذا.

وإذ أسهمت العلاقات التجارية البحرية بين عُمان ودول شرق أفريقيا وآسيا في تبادل الثقافة والفنون، فإن الدكتور محمد الشعيلي يؤكد على أن الموقع الجغرافي المميز لسلطنة عُمان أسهم في تطوير علاقاتها الحضارية بوسائل مختلفة من أبرزها التجارة التي ساعدت بشكل فعال في أن يصبح الإنسان العُماني متقاربًا بثقافته مع بقية الثقافات من حوله وفي المناطق التي ارتادها، ما أدى ليس فقط إلى حدوث تبادل في جوانب الثقافة والفن بينه وبين سكان تلك البلاد، وإنما تجاوز ذلك إلى إثراء الحضارة الإنسانية في جوانب كثيرة.

ويواصل الشعيلي بالقول “عندما تنقل الإنسان العُماني إلى موانئ ومدن شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا والشرق الأفريقي حمل معه الكثير من الجوانب المتعلقة باللغة واللباس والأكل والفنون والموسيقى، بالإضافة إلى عادات وتقاليد اجتماعية مثل الاحتفالات بالمناسبات الدينية، ونظرًا إلى طول مكوثه في تلك المناطق وتكرر زياراته لها فمن الطبيعي أن يتأثر به سكانها، وهو ما لا نزال نلاحظه إلى اليوم خاصة في الشرق الأفريقي.”

ويتابع أنه “في المقابل تأثر العُمانيون أيضًا بما شاهدوه في تلك المناطق، وفي ما يتعلق بالثقافة والفنون فقد وجدت مفردات لغوية خاصة بلغة سكان تلك المناطق لا زال بعضها مستخدمًا في سلطنة عُمان، أما في الجانب المرتبط بالموسيقى فقد أدى ذلك إلى ظهور أساليب وأشكال موسيقية جديدة، وإلى استخدام آلات موسيقية ذات جذور أفريقية وآسيوية، وأنماط احتفالية ترتبط بها، وهذا كله يخلص إلى أن العلاقات التجارية لم يتوقف تأثيرها عند العامل الاقتصادي فقط، بل شمل أيضًا وجود تأثيرات ثقافية واجتماعية مختلفة.”

أما عن الأدب العُماني، وكون سلطنة عُمان تمتلك تراثًا أدبيًّا غنيًّا، ودوره في نقل الثقافة والتاريخ العُماني للأجيال القادمة، يقول الشعيلي إنه “لا يمكن إغفال تأثير الأدب العُماني كمعبر مهم في تناقل الثقافة والتاريخ العُماني بين الأجيال وفي تصدير ذلك حتى للخارج، وفي تقديم صورة مميزة حول واقع الأدب العُماني وتطوره، وفي الجانب التاريخي تعددت أنواع الأدب وأشكاله في الاهتمام باستثمار التاريخ العُماني في إخراج أعمال أدبية يمكن وصفها بالمتميزة، فأصبحت لدينا روايات أدبية ذات طابع تاريخي، نجحت في تسليط الضوء على جوانب ومراحل مهمة في التاريخ العُماني، وفاز بعضها بجوائز إقليمية وعربية، الأمر الذي يوحي بثراء هذه الروايات.”

العلاقات التجارية البحرية بين عُمان ودول شرق أفريقيا وآسيا اسهمت في تبادل الثقافة والفنون

كما وجدت، وفق قوله، العديد من القصائد الشعرية التي تتضمن في أبياتها الكثير مما يمكن الاستفادة منه في معرفة أمور مرتبطة بجوانب كثيرة في تاريخ سلطنة عُمان، وأدرج بعضها في المناهج التعليمية في مؤسسات التعليم العام والعالي؛ نظرا إلى قيمتها الأدبية والعلمية، بخلاف فروع الأدب الأخرى من القصص القصيرة والمقالات والمسرحيات وغيرها.

وفي الحديث عن العادات والتقاليد وما شهدته من تطورات وتحولات، يؤكد على أن المجتمع العُماني بطبيعته محافظ على قيمه وعاداته وتقاليده، ويعمل على حمايتها أمام متغيرات كل فترة زمنية، ويمكن اعتبار دخول أهل عُمان في الإسلام هو بداية التحول في هذا الموضوع، فخصوصية الدين الإسلامي فرضت على العُمانيين قيمًا وعادات وتقاليد مرتبطة بعقيدتهم الدينية.

وحول ضرورة تعزيز الوعي بالتاريخ العُماني يشير إلى أن وسائل الإعلام بمختلف أنواعها لها دور كبير في إبراز التاريخ ونشر ثقافته، وتعزيز حضوره بين فئات المجتمع المختلفة، وتعريف المشاهد والمستمع بتفاصيل وأحداث كثيرة تتعلق بالتاريخ العُماني، والتوعية به، والإسهام في تعزيز الانتماء الوطني من خلال الاعتزاز بهذا التاريخ، وأيضًا في تقديم صورة مميزة عن التاريخ العُماني للمتلقي الخارجي.

ويختتم الدكتور محمد بن حمد الشعيلي حديثه حول الجهود المبذولة لتوثيق التاريخ الشفوي العُماني، مؤكدًا على أنه لا يقل أهمية عن التاريخ المدّون والمكتوب، وأنه في دولة بحجم سلطنة عُمان في تاريخها وحضارتها، فإن الاهتمام بهذا الجانب أصبح كبيرًا سواء على الصعيد المؤسسي من خلال المؤسسات الرسمية، أو على الصعيدين الشخصي والمجتمعي من قبل المهتمين والباحثين والمؤسسات المجتمعية والأهلية، ما يؤكد وجود تفاصيل كثيرة ومهمة في التاريخ العُماني لم تتطرق إليها المؤلفات بمختلف أنواعها، وتم الاستدلال عليها من خلال التاريخ الشفوي والمروي، فأصبحت تشكل مادة علمية موثوقة يعتمد عليها في الدراسات والبحوث والمناشط المختلفة.

ويشير إلى أن بعض المؤسسات الأكاديمية العُمانية أسهمت في حفظ هذا التاريخ من خلال إطلاق مشروعات علمية وأكاديمية تستهدف تحقيق ذلك، وفي إصدار مؤلفات علمية وتنفيذ مشروعات ثقافية استندت فيها المادة العلمية إلى التاريخ الشفوي، منها على سبيل المثال لا الحصر، المشروع البحثي المرتبط بالتاريخ الشفوي الذي تقوم به جامعة صحار حاليًّا بالتعاون مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار.

13