حمد- بشار التحالف التكتيكي والدوافع الخفية وانهيار الصداقة

عمل أمير قطر السابق، حمد بن خليفة، على مدى أكثر من عامين، على الإطاحة بـ"صديقه" الرئيس السوري بشار الأسد. لكن هذا الأخير تعهد لشريكه القطري بأن تكون نهاية حاكم قطر أقرب من نهاية حاكم سوريا؛ وهو ما تحقق اليوم.
أختار وصفا لهذه العلاقة الإشكالية ما بين الأمير القطري المتنحي، حمد بن خليفة آل ثاني، ورئيس النظام في سوريا، بشار الأسد، تناغما مع العنوان الشهير لكتاب المحلل السياسي فلينت ليفيريت: "وراثة سورية: اختبار بشار بالنار"، الذي قدّم فيه ليفيريت إعادة تصنيع للسياسة السورية منتقدا "فشل الولايات المتحدة" في اعتماد سياسة انخراط بناءة مع سوريا. وقدم تحليلا يتسم بالكثير من الموضوعية المتسمة بالإيجابية عن شخصية بشار الأسد وسياساته. وأكّد فيه على أن الولايات المتحدة، وليس الأسد، هي المسؤولة عن التردي في العلاقات السورية الأميركية. وخلص إلى نتيجة مفادها أن غياب انخراط أميركي "مشروط" مع سوريا يضرّ بمصالح الولايات المتحدة نفسها في المنطقة.
أهم رأي عبر عنه ليفيريت كان أن بشار الأسد ليس مديرا لجمعية خيرية تهب الأميركيين العطايا، أما حمد بن خليفة آل ثاني فقد كان يؤمن بانخراط مباشر وغير مشروط مع بشار الأسد في علاقة ستتحوّل مع الوقت إلى صداقة عميقة، قبل أن تنهار تماما، مع تداعيات اختيار بشار لشنّ حربه الطويلة على الشعب السوري.
وربما يكون من المفيد إعادة استذكار اللقطات التي جمعت عددا من قادة العالم ورؤساء الدول على المنصة الفرنسية في خريف العام 2008 في حفل الجيش الفرنسي الذي أرسل الدعوات إليه الرئيس ساركوزي، حين وقف بشار الأسد مع حمد بن خليفة آل ثاني أمير قطر، محاولا تجنّب وصول رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت إليه، وهو في طريقه إلى مصافحة حسني مبارك وغيره، مقتربا من بشار وحمد.. كان بشار ما يزال يريد إخفاء تلك العلاقة التي تريد إسرائيل كشفها كلّ مرة بتسريبات مختلفة.
وكان حمد الذي يتمتع بعلاقات علنية واضحة مع الإسرائيليين، تجارية وسياسية، يريد هو الآخر لهذا الطوق من الوهم السياسي الإيديولوجي أن ينكسر، فترك بشار وحيدا على المنصة بين يدي أولمرت، وابتعد ضاحكا، وكانت تلك اللحظة تجليا كبيرا لطبيعة الصداقة التي جمعت ما بين بشار وحمد، والمسار الدرامي الذي وصلت إليه.
|
لم يكن حافظ الأسد ليرحّب بخطوة حمد بن خليفة آل ثاني بالانقلاب على والده وتولي زمام الحكم في شبه الجزيرة الصغيرة المنزوية على ضفاف الخليج، لاعتبارات تتعلق بطبيعة تفكير الأسد العسكرية، وشخصيته المتمحورة حول ذاتها والتي لا تستسيغ تطوّرات داخل الأسرة الواحدة من ذلك الطراز.
ولأن خطوة كهذه كانت مزعجة جدا لعلاقاته المستقرة مابين الرياض وأبو ظبي، اللتين لم تقبلا أيضا بإقصاء الابن لأبيه، ولكن بشار الأسد، جاء مختلفا عن والده، فهو لم يكن يحسب حسابات تحمل طابعا استراتيجيا بقدر ما كانت ترمي إلى أهداف أخرى، وكذلك فعل أمير قطر الذي انشغل تماما بوضع قطر على الطاولة.
وأصرّ منذ اللحظة التي تولى فيها الإمارة على رفع قطر من الزاوية المعتمة التي كانت تعيش فيها، واستعمل لذلك كلّ وسيلة، مبتدئا بالتغييرات المجتمعية التي أراد لها أن تسهّل سيطرته على كيان الدولة، "قضية سحب جنسية ستة آلاف مواطن قطري من قبيلة بني مرة"، ومنذ يوم 27 تموز ـ يونيو 1995، كان قد أصبح التغيير شعارا في قطر، فأطلق الشيخ الشاب قناة الجزيرة لتكون ذراعه الإستراتيجية في المنطقة والعالم، ولتتدخل في ملفات حساسة وخطرة، ولتصبح المظلة التي حملت الجزيرة الصغيرة عاليا، بالمزج ما بين الإعلام والسياسة.
وكان بشار الأسد بأمس الحاجة إلى هذا النموذج، من أجل مساعدته على تقديم نفسه كرئيس إصلاحي، فهو بعلاقاته المميزة مع الشيخ حمد بن خليفة، أراد إيصال الرسالة تلو الرسالة بأنه يسير على النهج الذي سار عليه حمد، وإن كان على النقيض من حمد، لم يأت بأي تغيير جوهري في بلاده، وهي مفارقة ستلازم علاقة بشار بحمد طويلا وصولا إلى اللحظة التي هي عليها الآن.
أوراق ضغط على المحاور
في العام 2003 كانت المنطقة قد بدأت بالتغيّر، فبسقوط بغداد تحت الاحتلال الأميركي، وتحوّل الولايات المتحدة إلى جار لدول الخليج وسوريا معا، صار لا بدّ من تغييرات على مستوى العلاقات والمحاور التي كانت سائدة، وتزامن ذلك مع قرار بشار بالعودة عن الفسح الخجول للحريات في ما عرف حينها بـ"ربيع دمشق" الذي تناولته الجزيرة وقطر بحماس كبير، كما تناولت إلى جانبه ملفات المعارضات في كافة الدول العربية، الأمر الذي دفع ببشار الأسد إلى المسارعة لزيارة الدوحة وتوقيع ثلاث عشرة اتفاقية اقتصادية وسياحية وتجارية ما بين سوريا وقطر، وانطلقت العلاقة الشخصية بين الرجلين.
كان حمد يرى في بشار الأسد شوكة في حلق المحاور التي تدور مسنناتها في المنطقة، فبشار بعلاقاته الآخذة في التعمّق مع إيران وحزب الله، قد يكون بوابة جيدة للمزيد من المكاسب لقطر في ملفات التفاوض الكثيرة التي أراد لها الأمير القطري أن تكون أسلحة الدوحة التكتيكية في مختلف القضايا، بالإضافة إلى أن تلك العلاقات ستزعج بالتأكيد كلا من السعودية والكويت والإمارات؛ الدول التي استمرت غير مرتاحة لسياسات حمد.. وبتوطيد الصلات مع دمشق سينشأ محور جديد في المنقطة.
بالنسبة إلى بشار كان الأمر مشابها، نوعا ما، فهو بحاجة للمزيد من الضغط على المحور الذي صار اسمه في ما بعد "محور الاعتدال" وقادته في الرياض والقاهرة.
ونتيجة للتركة الثقيلة التي خلّفها له والده، فقد كان من الصعب عليه تقبّل رعاية وحضانة كل من الملك السعودي وحسني مبارك بسهولة، وكان تحدّيه سيكولوجيا وسياسيا في أن يقدّم لهم المزيد من الاختلاف عن صديقهم القديم حافظ الأسد.
وبعد اغتيال الحريري في العام 2005، لم يكن قد بقي لبشار في المنطقة العربية سوى حمد بن خليفة، وقد أطبقت عليه الاتهامات من كل جانب، مشيرة إلى مسؤوليته عن قتل رئيس الوزراء اللبناني الزعيم السني الجديد الذي تدعمه الرياض بقوة ويحمل الجنسية السعودية. وعزفا على الوتر الذي يزيد من ضيق السعوديين، فقد عرف حمد ما الذي يريده بشار الأسد منه تحديدا، فبشار الذي قدّم النموذج الجديد في المنطقة لرئيس جمهورية مهتم بالتجارة والمليارات وإنماء ثروته الخاصة، كما وصفته التقارير الأميركية طويلا، لم يكن رامي مخلوف بالنسبة إليه سوى ممثلّه وواجهته الاقتصادية، أكثر من كونه مجرّد "قريب فاسد"، ولذلك فقد فهم حمد أن بشار سيقترب أكثر عن طريق المزيد من الدعم الاقتصادي، وهذا ما كان، ففي العام ذاته تدفقت أموال هائلة على بشار الأسد من الدوحة، وتمّ الاتفاق على خطوات كبيرة جدا، فعقد المؤتمر الاستثماري السوري القطري، وبلغت الاستثمارات خلال العام 2005 أكثر من "230" مليار ليرة سورية، وبدأت قطر تدرس إحداث الشركة القابضة برأسمال أولي بلغ 200 مليون دولار.
اختلاط التجارة بالسياسة
كثيرا ما ظهرت أسماء الأسد إلى جوار الشيخة موزة في نموذجين حاولا التأثير في الرأي العام العربي والعالمي
كان أمير قطر يدرك أن بإمكانه استثمار بشار في النزاعات القائمة، كما تفعل إيران وغيرها في المنطقة، فما بين عامي 2006 و2007 كان قد تحقق الكثير من "الشراكة التجارية الشخصية" بين الرجلين، فتم إنشاء المصرف الإسلامي الدولي، الذي بدأ أعماله في دمشق برأس مال قدره خمسة مليارات ليرة سورية، وافتتح فروعا له في عدد من المحافظات السورية، وانطلق المشروع السياحي الكبير الذي تقوم بتنفيذه شركة الديار القطرية (المملوكة للدولة القطرية بالكامل وتتبع للشيخ حمد مباشرة) ليتم تنفيذه في مناطق الساحل السوري، في منطقة رأس ابن هاني، وبلغت كلفة المشروع 224 مليون دولار أميركي، ثم تم إنشاء "البنك القطري السوري الدولي" في العام 2007 برأس مال قدره 100 مليون دولار، وتمّ توقيع اتفاقية "الشركة القابضة السورية القطرية" في العام 2007 أيضا وصودق عليها بنفس العام، وبرأس مال قدره خمسة مليارات دولار أميركي، علاوة على تأسيس شركة الائتمان السورية عام 2008 برأس مال قدره عشرون مليون دولار.
كتاجر بالدرجة الأولى، وسياسي بالدرجة الثانية، كان الشيخ حمد يرى في سوريا مناخا استثماريا جيدا بعد التغييرات في المنطقة، فهي بيئة مستقرة للاستثمار بسبب القبضة الأمنية المشدّدة فيها، خصوصا أن خلافاته الدائمة مع مبارك سببت له ابتعادا تاما عن سوق مصر، التي لم يكن ليُسمح للقطريين بالاقتراب منها خوفا من عتب السعوديين. وقد أفصح حمد طويلا عن رغبته في الإقامة بسوريا بعد تقاعده، لأنه يرى أنها أرض أجداده من التميميين، وهو المولع بأصوله القبلية.
ذلك المزاج الذي لم يبدُ كأنه وليد السنوات الأخيرة، فهو الذي اختار لابنه -ولي عهده فيما بعد- اسم "تميم" تيمّنا بالقبيلة ذاتها، ولم يخفِ رغبته في إنتاج عمل درامي "سوري" كبير عن الفارس العربي المسلم القعقاع بن عمرو التميمي، الأمر الذي تمّت تلبيته سريعا، وقام ببناء قصر خاص به في ريف دمشق، تحيط به قوات الحرس الجمهوري السوري، أما مشروعه في اللاذقية فكان أفضل تعبير عن اختلاط السياسة بالبزنس، فقد أراد إنشاء قرية سياحية لكبار الأثرياء في العالم في خليج رأس ابن هانئ، بالشراكة المباشرة مع بشار الأسد، الذي أبعد رامي مخلوف، تماما، عن هذه العلاقة، لأنه اعتبرها أكبر من الآخرين، وأنها ملكه وحده.
صبر حمد وعنجهية بشار وافتراق الأقدار
بشار الأسد الرئيس السوري:
"قطر تسعى إلى أن تكون الوكيل الحصري للسياسات الأميركية في دول العالم العربي، لذلك تسعى إلى تقديم سوريا كجائزة أمام أميركا لتقدم فروض الولاء، وبعد ما جرى في مصر وتونس ظنت قطر أنها تستطيع إعادة صياغة الدول العربية بالشكل الذي يناسبها".
أخيرا، كان يمكن لبشار الأسد أن يحافظ على تلك الصداقة الإستراتيجية مع الأمير القطري، لو أنه نفّذ هو الآخر انقلابا شاملا على حافظ الأسد، بعد أن ورث الرئاسة في سوريا، في تغيير كليّ لجميع البنى والآليات التي رسّخت الاستبداد؛ غير أن بشار اختار المضي في تأصيل عميق للدكتاتورية وتكريس للأسس التي أرساها والده، من دون أن يلتفت إلى المتغيرات في الداخل والمنطقة والعالم، بخلاف حمد بن خليفة الذي آثر الابتعاد قبل أن تبعده صروف الدهر.