حليم الأسطورة
في ما يشبه الحج، يقوم بعض عشاق العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ بالاصطفاف أمام منزله، في زيارة سنوية لشقته بحي الزمالك الراقي بوسط القاهرة المطل على حديقة الأسماك ونيل القاهرة، يستنشقون أنفاسه الهادرة في غرف البيت، يسترقون النظر إلى المغلق من دواليبه الخاصة، وخزانة ملابسه، وصندوق ذكرياته، أنينه في لحظات المرض مازال ساخنا حارقا طازجا يطوف على الجدران، أهاته، توجعاته، حنينه إلى “امرأة المصعد” حبه الأول يخترق الصمت.
شقة عبدالحليم حافظ التي أوصى بأن تفتح للجمهور كل عام في ذكراه وحافظت أخته الكبرى الحاجة علية على وصيته في شأنها، ومن بعدها ابنتها الحاجة زينب، لا تحتوي أثاثا ومفروشات، وليست مجرد أربعة جدران تبلغ قيمتها السوقية الملايين من الجنيهات، بل هي شقفة من روحه، وبعض من أيام النجاح والتألق في سنوات الذروة والزهو الفني، والانكسار في سنوات عجاف بعد نكسة 1967 حتى تحقق النصر العظيم في أكتوبر 1973، حبه، وفقده لمن أحب في لمح البصر.
حليم صوت أبعد من مجرد تردد نغمات في حنجرة توصف بكونها ذهبية، حليم صوت عابر للزمن والقارات، إحساس يسكن القلب فتخرج النغمات عميقة، دافئة، موهبة تتحرك بذكاء شديد.
ذهبت لزيارة منزله بالزمالك لأثبت لنفسي ولكم أن زائريه على موعد معه لا يخلفوه أبدا، رغم مرور أربعين عاما على رحيله المبكر عام 1977 وهو لم يكمل عقده الخامس بعد، المشهد رائع حين يذهب كل هذا القدر من محبيه والمعجبين به لمشاهدة منزله وتنفس ذكرياته، لا عجب أن أرى امرأة سبعينية مريضة تتكئ على عصاها للوفاء بالنذر الذي قطعته على نفسها في الزيارة السنوية، قد تكون تعلمت الحب على يديه، ارتشفت معه فنجان قهوة في مقهى على الطريق، أو التقته لقاء عابرا ظل ذكرى في مخيلتها، ولكن أن تذهب للزيارة فتاة عشرينية رضعت الأغاني الشبابية في طفولتها، وفطمت على أصوات في مثل عمر أولاد عبدالحليم إن كان تزوج وأنجب، هو أمر غريب، سألتها ما الذي أتى بك إلى زيارة شقة مات صاحبها قبل ميلادك بعقدين كاملين، قالت “حليم هو الحب، الإحساس الرائع، تربيت على صوته علمتني أمي كيف أحبه، وعلمني صوته كيف أحب”.
حالة خاصة وحب نادر رأيتهما في عيون محبيه، حليم تجربة معجونة بالإحساس الذي زاده الألم تألقا وبريقا.
سريره العجوز يحكي لحظات ألم ومرض كان شاهدا عليها، شريكا فيها، حاملا لها وله، موضع رأسه المثقل بالأفكار والأحلام وصبغات لونها الزمن، يحفر له موضعا من طول الاتكاء.
عشق السهر خوفا من آلام لا تهدأ، تتردد في ساعات عجيبة، تأتي بلا استئذان ولا ترحيب، تطرق باب الجسد النحيل محدثة ضجيجا يوقظ النيام، فكيف له أن يهدأ وتأنس روحه إلى النوم والراحة، إنه لا ينام إلا بعد أن يستيقظ الجميع ليضمن عيون يقظة إذا ما داهمته آلامه وسال دمه نزفا.
لا أعلم كيف حدث لي هذا، ولكن للحظة لا أعلم مداها ولا كم من الزمن استغرقت، تاهت روحي وأنا أطل من شرفة غرفة نومه على صفحة النيل لأرى صفحته اللامعة تترقرق كدمعة حزينة في عيون فتاة جميلة، سمعت أنينا تردده الجدران بصوته، وصوت الأمواج المتلاطمة تنعاه، تبكيه وكأن روحه فاضت بالأمس القريب، ولم تمض عليها أربعة عقود كاملة، عود حزين ورسائل غرام بخط معجبين ومعجبات، وشهادات تقدير، وصور مع ملوك وأمراء، وزجاجات عطر تزين غرفته. إلى جوار سريره هاتف قديم، عود وآلة أسطوانات، ووجع السنين منثور في الأنحاء.
حليم لم يكن ابن الصدفة كما قال البعض، بل ابن الإرادة والجهد والمثابرة، صاحب المقولة الشهيرة “النجاح لا يصنعه الأعداء ولا يصنعه الأصدقاء، النجاح يعتمد على الموهبة والإرادة”، و“الفن قيمة عظيمة”.
ليتنا نربي أبناءنا على الحب والإحساس، وصدق المشاعر، وتحمّل الظروف والعبور فوقها بدلا من الارتطام بها والبكاء من شدة الألم، ونؤمن بقوة الإنسان وقدرته على التغيير.
كاتبة مصرية