حلم الهجرة يتغلب على حلم الحصول على الشهادة الجامعية في تونس

ناجحون في البكالوريا يفضلون تعلم حرفة تمكنهم من السفر إلى الخارج وبناء مستقبلهم هناك.
السبت 2024/08/03
حلم جل الشباب

تدفع بطالة خريجي الجامعات في تونس وتدهور ظروف العمل داخل البلاد شبابها إلى التفكير في الهجرة وبناء مستقبلهم خارجها حتى ولو كان ذلك على حساب الشهادة الجامعية. ولم يعد الحصول على الشهادة الجامعية حلما يراود عددا كبير من الشباب الحاصلين على البكالوريا بقدر ما أصبحت الهجرة إلى كندا وأوروبا وبلدان الخليج مطمحا لهم.

تونس - لا أرغب في مواصلة تعليمي بالجامعة بل سأسجل بمركز للتكوين المهني حتى أحصل على شهادة تمكنني من مغادرة البلاد نحو كندا والاستقرار هناك.. اليد العاملة مطلوبة بكثرة والحرفة باتت أهم من الشهادة الجامعية، كما أن الأوضاع المعيشية وتدهور ظروف العمل داخل البلاد لا تشجعني على مزيد البقاء فيها.. هكذا تحدث أسامة بلعيد الحاصل على بكالوريا اقتصاد وتصرف دفعة 2024.

وأضاف بلعيد لـ”العرب”: “رغم كل محاولات أفراد الأسرة إلا أنهم لم يقنعوني بضرورة البقاء في تونس .وحتى وإن سجلت بالجامعة فلن أتراجع عن التسجيل في مركز التكوين المهني للحصول على شهادة تقنية”. ولم يكن ذلك حال بلعيد فقط، ولكن كثيرا من الشباب الحاصلين على شهادة البكالوريا وحتى غير الحاصلين عليها يراودهم حلم الهجرة بعد أن أصبحت تونس بيئة طاردة لشبابها بسبب بطالة أصحاب الشهائد العليا وهجرة الكفاءات.

ويشكّل استفحال ظاهرة هجرة الكفاءات نزيفا حقيقيا للثروة البشرية في تونس، وهي ظاهرة تعود إلى ضعف مستوى الأجور، وانتشار البطالة، وتعطل منظومة تشغيل خرجي التعليم العالي، والاختلال بين ما توفره الجامعات من شهادات علمية في بعض الاختصاصات وبين ما تطلبه سوق الشغل من حاجيات. وفي ظلّ الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها تونس بعد الثورة، وما شهدته من تداعيات نتيجة جائحة كورونا، باتت الهجرة النظامية، وخصوصا نحو أوروبا والخليج، للأطباء والمهندسين والتقنيين والأساتذة، وكذلك الهجرة غير النظامية للفئات الأكثر هشاشة؛ حلما يراود الكثير منهم.

وبحسب وكالة التعاون الفني الرسمية، تتصدر كندا المركز الأول من مجموع البلدان المنتدبة للكفاءات التونسية، ولاسيما في مجالات الطب والتعليم والإعلام، ثم ألمانيا وفرنسا ودول الخليج وأميركا وبعض بلدان أفريقيا. وبلغ عدد المنتدبين عن طريق التعاون الفني منذ بداية هذا العام أكثر من 22 ألف تونسي.

وقال شهاب حيدري الحاصل على شهادة البكالوريا دفعة 2023 أنه ينهي هذا العام ديبلوم ميكانيك السيارات ليلتحق العام القادم بفرنسا بعد أن يرسل له أخوه القاطن هناك عقد عمل مع شركة فرنسية مختصة في مجال تركيب العربات، وهو عمل مضمون بالنسبة إليه وسيدر عليه أضعاف ما ستدر عليه الشهادة الجامعية لو يبقى في تونس. وأضاف شهاب: “حتى وإن اشتغلت في تونس فلن أقدر على بناء مستقبل جيد وتكوين أسرة.. هنا الأجور متدنية والطلبات كثيرة والأسعار من نار” والبطالة بلغت مستويات مرتفعة خصوصا في صفوف خرجي التعليم العالي، ما اضطر كثيرا منهم للهجرة.

نجيب بوطالب: الهجرة  تؤثر على المجتمع  وتهدد باختلال توازنه
نجيب بوطالب: الهجرة  تؤثر على المجتمع  وتهدد باختلال توازنه

أما الشاب ناجح الدريدي ابن محافظة سيدي بوزيد (وسط غرب)، فقال: “انقطعتُ عن الدراسة بإرادتي لأن أقربائي وأصدقائي تخرجوا منذ سنوات وما زالوا عاطلين عن العمل، ففقدتُ الأمل”. وأضاف “لم أشأ أن أجتاز امتحان البكالوريا لأني حتى لو حصلت على الشهادة فسأبقى عاطلا عن العمل مثل كثير من رفاقي”.

ويعيش الدريدي في أسرة متواضعة، ويتابع “ولأجد فرصة عمل في البناء عليّ السفر مسافة 150 كيلومترا نحو محافظة صفاقس أو 300 كيلو متر باتجاه جزيرة جربة..”، و”إذا فكرتَ بمشروع صغير تُغلق جميع الأبواب بوجهي”. وقد دفعت قسوة العيش والضغوط العائلية، الشاب إلى التفكير في الهجرة بطريقة غير نظامية نحو إيطاليا، لكنه لم يجد ثمن الرحلة ففكر في تعلم حرفة تمكنه من الهجرة الشرعية رغم صعوبتها بالنسبة إلى وضعيته.

وقال الدريدي: “الأمر متوقف على جمعي 6 آلاف دينار (ألفي دولار) ثمن الرحلة.. “تخيلوا شابًّا لا يجد ثمن 4 سجائر وكوب قهوة بديناريْن اثنين، فما بالك بفكرة شراء قطعة أرض أو بناء منزل وتكوين أسرة؟”. لذلك يكون الحل في ترك البلاد والهجرة نحو مستقبل أفضل. ويرى الباحث والأكاديمي لطفي السنوسي أن أزمة هجرة الكفاءات التونسية مرتبطة بهنات تعيشها الجامعة التونسية. فبعد الثورة تعاقبت الحكومات وتغيّر الوزراء على رأس وزارتي التربية والتعليم العالي، لكن “الإرادة السياسية لإصلاح التعليم غابت، وأصبح الملف محل توازنات حزبية وسياسية”.

وقال السنوسي إن من بديهيات أزمة تشغيل خريجي التعليم العالي “الاختلال بين ما توفره الجامعات من شهادات علمية، وبين ما تطلبه سوق الشغل من حاجات”، ويعود هذا الاختلال إلى غياب الإصلاح بطريقة تشاركية، وإلى ضعف مستوى التأطير من الأساتذة الأكفاء الذين هجروا البلاد لانعدام التحفيز. وبلغ عدد الطلبة المسجلين في القطاع العام (2021-2020) أكثر من 232 ألف طالب، مقابل أكثر من 370 ألفا في عام 2010. وقد بلغ عدد خريجي التعليم العالي (2020-2019) ما يزيد على 50 ألفا.

ويوجد في تونس نحو 193 من مؤسسات التعليم العالي، منها 163 مؤسسة تحت إشراف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، و30 مؤسسة تحت إشراف مزدوج بين وزارة التعليم العالي ووزارات أخرى. بدوره، حذّر الأستاذ والباحث في علم الاجتماع نجيب بوطالب من تأثير هجرة الشباب على المجتمعات المحلية المهددة باختلال التوازن الديمغرافي وفقدان اليد العاملة وارتفاع نسبة العنوسة بين الإناث، فضلاً عن تأثيرها على مدن الجنوب التونسي.

وكانت دراسة من إعداده قد أشارت إلى بوادر تحوّلات اجتماعية عميقة تشهدها محافظة تطاوين ( جنوب)، بسبب موجات الهجرة لشباب المنطقة عبر تركيا، وصولاً إلى العواصم الأوروبية. وأبرزت الدراسة، التي أعدها فريق البحث، هجرة 12 ألف شاب من محافظة تطاوين خلال الأشهر الثمانية الأخيرة، من سنة 2022، وقد تحولت إلى ما يشبه كرة الثلج بعدما انخرطت أسر بأكملها في تمويل رحلات الهجرة السرية بكلفة تصل إلى حدود 20 ألف دينار (نحو 6200 دولار أميركي) للفرد الواحد.

وقال بوطالب، إن “نتائج الدراسة الميدانية التي أجراها في محافظة تطاوين تكاد تكون صادمة”، مؤكداً أن “غالبية العائلات أصبحت منخرطة طوعياً في تمويل مشاريع هجرة أبنائها عبر خط تركيا دول البلقان، ما يتسبب في هجرة الأموال من المنطقة وارتفاع نسبة الفقر والديون لدى العائلات”.

وتحدّث بوطالب عن “غياب الوعي الرسمي حول خطورة التحولات التي تشهدها المجتمعات المحلية في محافظات الجنوب التونسي بسبب الهجرة”، مرجّحاً أن “تكون السلطة منخرطة في التشجيع على هجرة الشباب في اتفاق سري مع دول أوروبية”، مشيراً إلى أن “هجرة الشباب في محافظة تطاوين تحوّلت إلى ظاهرة شمولية بصدد التمدد إلى محافظات أخرى جنوب تونس، وخصوصاً مدنين”.

15