حكومة "تحرير" وطني في تونس: الرهان والدلالات

التعديل والتغيير يتمان بصفة دورية ولا ينتظر الرئيس سعيد إشارة من أحد، فقط المصلحة العليا للوطن هي ما يحتم ذلك حتى "لو اقتضت المصلحة العليا إدخال تحوير وزاري حتى بعد فتح مكاتب الاقتراع".
الاثنين 2024/09/02
متابعة مكثفة ودقيقة لكل صغيرة وكبيرة

كثيرًا ما أكد الرئيس التونسي قيس سعيد، خلال زياراته الميدانية المعلنة وغير المعلنة، وأخيرا في خطابه لتنصيب الحكومة الجديدة، على ضرورة مواصلة معركة التحرير وتطهير الدولة من الفساد واللوبيات التي تغلغلت في الخواصر الضيقة للدولة وتعمل على تعطيل مسار الإصلاح.

الرئيس سعيد يدرك جيدًا معنى استخدام مصطلح التحرير الوطني العميق، ويشير إلى أن الدولة تعيش مرحلة استعادة كينونتها وهيبتها التي افتقدتها طيلة سنوات. تونس حافظت ولا تزال تحافظ على سيادتها الوطنية التي افتكت زمن المد الثوري عام 2011 وما تلاه من تتالي الحكومات التي طالت أيدي الفساد خلالها جل القطاعات والميادين دون استثناء، سواء في الإدارة أو صلب المؤسسات أو هياكل الثروات الطبيعية وغيرها.

معركة التحرير، التي قرأنا عنها في كتب التاريخ استدلالًا على فترة الاستعمار ودخول تونس آنذاك مخاضًا عسيرًا من أجل التحرر من قيوده، الرئيس التونسي يستنسخها للتعبير عن استعمار من نوع آخر ترزح تحت نيره الدولة ويطبقه عليها جنس آخر من الذين طغت على عقولهم وأحاسيسهم غشاوة، ولم يعد يرونها سوى فرصة لتحقيق مآربهم ومصالحهم الشخصية.

◄ تونس اليوم على عتبة أن تنهض من جديد بفضل المؤشرات الإيجابية التي يتم الكشف عنها يوميًا، والنتائج الإيجابية التي يحققها أبناؤها في شتى الميادين

عودة إلى الحكومة الجديدة، التي يبدو أن الاختيار فيها كان مركزًا على عناصر من ذوي الخبرة والشخصيات غير المعهودة لدى المراقبين السياسيين، مثار الجدل فيها أن التعديل جاء شاملًا باستثناء ثلاث وزارات، هي وزارة العدل ووزارة الداخلية ووزارة المالية التي أبقى الرئيس سعيد عليها دون تحوير.

دلالات عميقة للمعركة التي تخوضها السلطة ضد الفساد وتخليص تونس من دولة عميقة جاثمة تريد العودة بها إلى الوراء جراء التأخر والتراخي في تطبيق القانون. الرئيس سعيد يريد الذهاب أبعد ما يكون في حربه على من يسميهم “أعداء الوطن” وأعداء النهوض بتونس، وهو ما يجعله في كل مرة دائم التغيير، ويختار رئيس الحكومة بميزان معين وبرؤية عميقة، والأهم من ذلك الجرأة في تطبيق ما يتم الاتفاق عليه والتشاور بشأنه وبما يتعلق بالدولة والجبهات التي يتوجب ترتيبها لخوض هذه المعركة الكبيرة.

ما يحسب للحكومة الجديدة أنها تتضمن شخصيات وكفاءات متمرسة في الإدارة التونسية وقادرة على خوض معركة التحرير التي يضعها الرئيس ضمن أولوياته، حتى أنه أكد خلال الكلمة التي ألقاها أثناء استقبال الوفد الحكومي الجديد أن التعديل والتغيير يتمان بصفة دورية ولا ينتظر إشارة من أحد، فقط المصلحة العليا للوطن هي ما يحتم ذلك، و“لو اقتضت المصلحة العليا للبلاد إدخال تحوير وزاري حتى بعد فتح مكاتب الاقتراع”.

دلائل عميقة غلف بها الرئيس قيس سعيد خطابه موجهًا تحذيرًا شديد اللهجة إلى “أعداء تونس” في الداخل والخارج على حد السواء، مؤكدا أنه اختار من رجال تونس الأكفاء الذين يثق في كونهم جنود تونس المبجلين لخوض هذه المعركة على كل الجبهات.

رهان الرئيس سعيد على التغيير يبدو صائبًا، وينمّ عن متابعة دورية ومكثفة لكل كبيرة وصغيرة لجميع الذين تم تكليفهم بتحمل مسؤوليات سواء كوزراء أو صلب أجهزة السلطة المتوسطة (ولاة وعمداء)، وهو ما تكشف عنه الوقائع والأحداث اليومية كل مرة. بلغة أوضح، من يكن في موضع مسؤولية يجب أن يتحمل الأمانة كاملة ويكون أهلاً لها ولا يخشى لائمة لائم.

لمراقب حصيف أن يتساءل عن الجدوى من وراء هذا التعديل الحكومي الشامل في هذا التوقيت الحساس الذي يستبق الانتخابات الرئاسية بأسابيع قليلة، والهدف أو الغاية من ورائه خصوصًا أن الحكومة ستمر بعد أيام قليلة في وضعها وهيكلها إلى حكومة تصريف أعمال إلى حين الانتهاء من الاستحقاق الانتخابي المنتظر؟

جوابان لا ثالث لهما يلخصان خطة الرئيس سعيد لفك بعض الألغاز التي تدور في أذهان البعض: الجواب الأول يأتي ردًا وانسجامًا مع المسار الذي رسمه الرئيس سعيد منذ حملته الانتخابية عام 2019 وكشف عنه بعد فوزه في الانتخابات وتوليه رئاسة البلاد في خطاب مزلزل بالبرلمان ولم تفهمه إلا قلة قليلة من الطبقة السياسية.

◄ ما يحسب للحكومة الجديدة أنها تحمل شخصيات متمرّسة في الإدارة التونسية وكفاءات وازنة قادرة على خوض معركة التحرير التي يضعها الرئيس من أولوياته

بعث الرئيس التونسي آنذاك إشارات واضحة ورسائل مشفرة إلى الطبقة السياسية بأنه آن الأوان للدولة أن تنهض وتستعيد هيبتها، وأنه أخذ على عاتقه هذه الأمانة ورددها وكررها بأن “الجميع هنا يحمل أمانة، كل من موقعه. والأمانة أمانات، أمانة الاستجابة لأبناء هذا الشعب في الحرية وفي الكرامة، فقد طال الانتظار ولا حق لأحد في أن يخيب آماله. شعبنا يريد أن يعبر الجسر بل هو بدأ العبور فوق هذا الجسر الذي شيده بدمه وعرقه من اليأس إلى الأمل”.

أما الجواب الثاني فيتعلق بالمستوى الذي بلغته تونس بعد ذلك المسار الذي خطه الرئيس سعيد وسار فيه يوم 25 يوليو 2021، وهو مسار ثوري تحريري للدولة من شلة الفساد والساسة المتاجرين وفي كل الاتجاهات، وكل ذلك يتطلب رؤية واضحة ومسارًا دقيقًا والتغيير متى استدعت مصلحة تونس ذلك.

من يتابع المشهد السياسي المتحرك في تونس جيدًا يتوقف عند نقاط مفصلية التغيير في كل مرة وتفرضها حاجة الدولة إلى ذلك، خصوصًا في ظل التراخي في تطبيق القانون لدى بعض المسؤولين، أو التسريع في حسم بعض الملفات المهمة التي لم يعد الوقت والوضع يسمحان بتأجيلها.

الدولة العميقة تحاول جر البلاد إلى الوراء واللوبيات تطبق على مسالك التوزيع وتحاول إفراغ السوق من المواد الاستهلاكية التي وإن حضرت هنا تغيب هناك.. تلك هي المشهدية التي يعيش على وقعها التونسيون صباحًا مساءً في محاولة لضرب استقرار الدولة الداخلي، وهي غاية لن يدركها الواهمون بتغيير مسار التحرير الذي خطه الرئيس سعيد ويطمح للسير فيه إلى النهاية.

تونس اليوم على عتبة أن تنهض من جديد بفضل المؤشرات الإيجابية التي يتم الكشف عنها يوميًا، والنتائج الإيجابية التي يحققها أبناؤها في شتى الميادين، سواء في الاقتصاد والرياضة أو البحوث العلمية أو الابتكار وغيرها الكثير. فيما يظل الشق الكبير من الماكينة القديمة يشتغل على تشتيت الإيجابي أسوة بمن يتوهم أن تونس لا يمكن أن تنجب رجالاً أشداء يعملون على النهوض بالدولة ويضعون مصلحة الوطن أولاً وأخيرًا.

9