حكومة السوداني على لائحة الانتظار

بعد سنة كاملة من المشاكسات والاتهامات والمصادمات تنازلت الأحزاب الشيعية، فجأة، عن عداوتها لأربيل التي تتهمها بالتبعية للموساد، ولسُنّة الحكومة الذين تصنفهم بالعمالة لتركيا والسعودية والإمارات، واختفت أصوات المجاهدين المطالبين بطرد المحتلين الأميركيين، وتوقفت الصواريخ والمسيّرات التي كانت تتساقط على قواعدهم وعلى سفارتهم في المنطقة الخضراء، وتم تعيين رئيس جمهورية، أي رئيس جمهورية غير الدكتور برهم صالح الذي يكن له مسعود حقدا شخصيا لا علاقة له بالكفاءة واللياقة والثقافة والوطنية والمرجلة. ثم تشكلت الحكومة في أربع وعشرين ساعة، فقط حين توافقت إيران وحليفها الشيطان الأكبر على استراحة قصيرة في العراق.
وفي أيام قليلة توزّعت الحصص، ودخل رئيس الحكومة الجديد إلى قصر الحكومة في القصر الجمهوري بالسلام الجمهوري وعلى السجاد الأحمر، وخرج منه مصطفى الكاظمي مُحمَّلا بذنوب وعيوب لن تمحى من ذاكرة العراقيين بعد مئات السنين.
◘ لا أحد يستطيع الجزم بأهلية حكومة السوداني للبقاء سنوات، أم هي راحلة في شهور. وذلك لأن عمرها موقوتٌ بنتائج الانتخابات النصفية الأميركية القادمة بعد أيام
أما المهم فهو أن الإطاريين المنتشين بالنصر المبين فقد تسارعوا إلى عرض محمد شياع السوداني على الشعب العراقي باعتباره الفارس المغوار القادر على أن يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، بحكومته المرفوضة من التشرينيين والصدريين، ومن عراقيين آخرين كثيرين يخافون أن تجيءَ هذه مثلَ تلك، فتكون حكومةَ كلام معسول ووعود وعهود، ثم، وبعد وقت قصير، يتبيّن أنها، كشقيقاتها السابقات، حكومة مشاريع فضائية، وتهريب نفط، وتجارة مخدرات، وتزوير شهادات، واختلاس ملايين ومليارات، واعتقال واغتيال، وبس.
وكان ممكنا تصديق الرئيس محمد السوداني لو لم تكن أحزاب المحاصصة هي ذاتها مهندسة هذه الحكومة وصاحبتها التي يمنعها تاريخها المثقل بالفساد والطائفية والعنصرية والأنانية الحزبية والأسرية من أن تتحول إلى أحزاب وطنية ملائكية لا تبتغي إلا مرضاة الله وإصلاح ما خرّبته ميليشياتها ومافياتها في خمس عشرة سنة، أو يزيد.
والمكتوب يُقرأ من عنوانه. فوزير ثقافة العراق الممتلئ بالمثقفين والأدباء والمفكرين والشعراء والفنانين العمالقة الكبار، واحدٌ مسلح قادم من ميليشيا عصائب أهل الحق بيدين ما زالتا تقطران بدماء المغدورين.
ووزيرُ الدفاع من حصة واحد دارت حوله العشرات من قصص الفساد المخلة بالشرف. ويقال إن وزير الدفاع الجديد كان ضابطا صغيرا هاربا من الجيش.
ووزير التعليم العالي مسلّح بشهادة من جامعة لبنانية إسلامية يملكها حزب الله اللبناني الإيراني، وقد أعلن، في أول يوم له في الوزارة، أن “عمودنا الفقري، ثقافيا وعقائديا، هو ولاية الفقيه”، وقال أيضا وهو يتسلم حقيبة الوزارة من سلفه الوزير “سنعالج السفور في الجامعات العراقية، وإلزام الطالبات بالحجاب الإسلامي”.

اقرأ أيضا: العراقيون لا يحلمون
ويعتقد المحللون العراقيون بأن أسباب العجالة في لملمة وزراء الحكومة بهذه العجالة والبَعثَرة كانت الحاجة الإيرانية الاضطرارية إلى تهدئة عراقية عاجلة، لكي يتفرغ الحرس الثوري والباسيج لقمع الانتفاضة.
والحقيقة أن الأكثر حاجة إلى هذه التهدئة في العراق هي أميركا وحليفاتها الغربية في ظروف انشغالها بتداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا.
وقد سارعت السفيرة الأميركية في بغداد إلى التهنئة والتبريك، وتبعتها حكومات دول حليفة أخرى عديدة، رغم معرفتها الأكيدة بطبيعة أن البطن التي أنجبت هذه الحكومة هي نفسها التي وضعتها أميركا وأوروبا، منذ زمن بعيد، على قوائم الإرهاب.
وأخيرا، تحقق لنوري المالكي حلمه الكبير بدحر مقتدى الصدر وطرده، مفلسا، بلا وزارات ولا منافذ حدودية ومكاتب اقتصادية، وعاجزا عن دفع رواتب أتباعه المُحبطين.
وخابت ظنون الكثيرين من العراقيين والعرب الذين أحسنوا الظن بمقتدى، وألبسوه درع سعد بن أبي وقاص، وحمّلوه سيف خالد بن الوليد، وجعلوه حارس البوابة الشرقية الجديد الذي سيقطع رِجْل الولي الفقيه عن العراق، ويحرر الوطن من جواسيسه ووكلائه الفاسدين المفسدين، وينزع سلاح الميليشيات (الوقحة)، ويعتقل المختلسين، ويسترجع الأموال المهربة إلى طهران وبيروت وعمّان والقاهرة ولندن ودبي، ويستعيد هيبة الدولة وسلطة القانون، ويعيد العراق موحدا عزيزا إلى حضنه العربي الدافئ القديم.
◘ دخل رئيس الحكومة الجديد إلى قصر الحكومة في القصر الجمهوري بالسلام الجمهوري وعلى السجاد الأحمر، وخرج منه مصطفى الكاظمي مُحمَّلا بذنوب وعيوب لن تمحى
إلى هنا والحكاية بلا نهاية. فلا أحد يستطيع الجزم بأهلية حكومة السوداني للبقاء سنوات، أم هي راحلة في شهور. وذلك لأن عمرها موقوتٌ بنتائج الانتخابات النصفية الأميركية القادمة بعد أيام.
فإن نجح الجمهوريون، وهو أمرٌ متوقع، وانتزعوا الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب فسوف يُعطّلون جزءاً كبيرا من نعومة الرئيس الديمقراطي جو بايدن مع إيران، وقد يمنعونه من توقيع الاتفاق النووي إلا بشروط وزير الخارجية الجمهوري السابق مايك بومبيو التعجيزية التي لا تحتمل.
ومعنى هذا أن الموقف الأميركي الكلامي الحالي من انتفاضة الشعب الإيراني قد يصبح أكثر حزما ووضوحا وصلابة، وقد لا يكون في صالح الملالي، خصوصا بعد أن صلُب عودُها، وأصبحت حقيقة فاعلة في إيران.
ولو حصل وعاد دونالد ترامب، أو أي رئيس جمهوري آخر يشبهه في الهمشرية والعنف والمزاج والبراعة في حساب الربح والخسارة، فسوف يوقف ثلاثة أرباع الأموال والأسلحة الأميركية المتدفقة على الأوكرانيين، وقد يَفرض على الروس حلا وسطا لوقف الحرب، حتى لو على حساب المناطق الشرقية الأوكرانية التي سطا عليها فلاديمير بوتين.
خلاصة القول إن محمد شياع السوداني قد يكون أطول رئيس وزراء عراقي عمرا في السلطة، أو قد يكون أسرع رئيس وزراء في السقوط. فبقاؤه متلازم مع بقاء الميليشيات العراقية التي أخرجت حكومته، ومصيرُها متوقف على مصير أولياء أمورها في طهران فقط حين يتخذ الأميركيون قرارهم الأخير.
إنها لعبة أمم معقدة ومؤلمة، وفيها قدر كبير من الجنون.