حكايات غرام المشايخ تدحض خطاب الانغلاق الديني

القارئ مصطفى إسماعيل عشق فتاة لمحها في شرفة المنزل وشيخ الطريقة الشاذلية هام بمديحة يسري وتزوجها.
الأربعاء 2021/04/14
الحب سفينة نوح التي لا خوف على ركابها ولا هم يحزنون

لا يختلف رجال الدين عن بقية البشر في التركيبة الفسيولوجية والبيولوجية، فهم أيضا لديهم عواطف ومشاعر إنسانية تجعلهم يقعون في الحب، وثمة حكايات وشهادات عن الحياة العاطفية لعلماء وأساتذة في الشريعة الإسلامية، تتبعها وجمعها الكاتب المسرحي المصري أيمن الحكيم في كتاب جديد للرد على الأفكار السلفية المنغلقة المعادية للحب.

لا تضع التعاليم الإسلامية مشاعر البشر على الهامش، ولا تحرّم على أتباعها الوقوع في الحب، إلا أن الحبّ في المجتمعات الإسلامية يأخذ طابعا خاصا، مع ارتباطه الصارم بمفاهيم الحلال والحرام الناشئة عن فتاوى وخطابات وتأويلات مختلفة للنصّ القرآني.

ورغم طوق التحريم الذي يحيط بالعلاقة العاطفية بين المرأة والرجل في المجتمعات التي يستغل فيها بعض رجال الدين المتشددين مساحة التدين المتجذرة في المسلمين، إلا أنّ الدين الإسلامي في جوهره متسامح، ولا يعدّ مشاعر الحب شأنا دونيا أو مرفوضا.

ولا يختلف رجال الدين ومشايخه عن بقية البشر في التركيبة الفسيولوجية والبيولوجية، فهم أيضا لديهم عواطف ومشاعر إنسانية تجعلهم ينجذبون إلى المرأة ويهيمون في محبتها، لأن مشاعر الحب عامل جوهري في الطبيعة والفطرة البشرية.

أيمن الحكيم: الحكايات التي جمعتها تتعارض مع الفكر السلفي المنغلق
أيمن الحكيم: الحكايات التي جمعتها تتعارض مع الفكر السلفي المنغلق

وثمة حكايات تتبّعها وجمعها الكاتب المصري أيمن الحكيم الذي ارتبط بعلاقات مودة بعائلات مشايخ وعلماء دين مُعتدلين عرفهم المصريون على مدى عقود، بعيدا عن خطاب الإسلام السياسي الإقصائي، أو خطاب السلفية الغليظ المُناهض لفكر الحب والمتبرأ من الغرام، القائم على النظر إلى المرأة على كونها شرا مستطيرا.

وأصدر الحكيم كتابا يحمل عنوان “غرام المشايخ.. قصص حب رجال الله”، عن دار ابن رشد في القاهرة، يحتوي على شهادات جديدة لأبناء مشايخ معروفين أحبهم الناس، تروي قصص الحب التي عاشوها، وحياتهم العاطفية، وما حملته من آثار على نظراتهم للحياة.

وقال الحكيم، لـ”العرب”، إن الحكايات التي جمعها وانفرد بنشرها في كتابه تتعارض بوضوح مع طرح الخطاب الديني الحالي الذي يهيمن عليه الفكر السلفي، وتقدم صورة للإنسان الطبيعي المتدين.

 وأشار إلى أن تلك الحكايات تؤكد أن رجال الدين السابقين، والذين أحبهم الناس وفق منظور التدين الشعبي كانوا أكثر تحضرا، وتفهما لمشاعر الإنسان النبيلة، وأحرص على النظر للمرأة نظرة اهتمام واحترام وشراكة.

وتنطوي تلك الشهادات على إِشارة واضحة لتأكيد فكرة بشرية رجال الدين وعدم وجود قداسة لهم، فهؤلاء المشايخ من علماء وأساتذة الشريعة، من مُرتلي القرآن وخطباء المساجد، ولكنهم لا يختلفون عن غيرهم، ولا يجوز تقديسهم، كما لا يجوز منح عصمة من أي نوع لهم.

وهم مثل غيرهم من البشر يُحبون ويعشقون، ويهيمون بنساء ملكت عليهم مشاعرهم، ويسهرون في سبيل ذلك الليل كله، ويُكابدون ويتمنون ويبذلون كل جهد في سبيل نجاح علاقاتهم الغرامية.

ولم يكن الحديث عن علاقات الحبّ مثيرا للجدل في ما مضى، غير أن العقدين الأخيرين شهدا بالتزامن مع صعود التيار السلفي شيوعا لتوجهات معادية لمصطلحات “الحب”، “الغرام”، “العشق” و”الهيام”، ووصما للمحبين بالمجون واستعلاء على مشاعر الإنسان الطبيعية.

وكان لاتساع وهيمنة الخطاب الانغلاقي أثر واضح في ازدراء حكايات الحب والغرام، وحجب جانب كبير من التراث العربي المتضمن لكثير منها تحت لافتة إشاعة الانحلال في المجتمع، ما أدى إلى قيام أصوات عديدة في المجتمعات العربية برفض طباعة ونشر حكايات ألف ليلة وليلة، وكتاب الأغاني، وأشعار عمر بن أبي ربيعة، أو غيرها من الكتب التراثية المعبرة عن الإنسان العربي بفطرته وطبيعته الإنسانية.

العودة إلى الرومانسية

Thumbnail

أكد الحكيم أن العودة إلى الرومانسية وتقديم حكايات الحب هو الرد العملي القوي على فكر العنف والإرهاب، المتداول عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، فالحب والعشق يُساهمان في كسر أعمدة الفكر الديني المنغلق وما يحتويه من رفض للآخر وقسوة إنسانية وشيوع للتكفير.

ويمكن أن يسهم الحب وتراثه في عالمنا العربي في إضفاء صفات التسامح والتحضر والرضا على الناس، وتهذيب الأنفس وحضها على القيم النبيلة والأخلاق الكريمة، بل إنه يُغذي شرايين الإبداع لدى رجال الدين ويمحو الصورة القاتمة السائدة بتجهمها ورجعيتها، فالهيام يدفع المشايخ إلى كتابة الشعر والنثر الجميل، وخطابات المحبة ولا يأبه أيهم بنشر ما كتبه أو كُتب إليه تحت لافتة الحب، الذي يعتبرونه من حقوق الإنسان وأمرا يتوافق مع طبيعة البشر.

ويعرف بعض المشايخ الحب من أول نظرة، فينسجون حبال الوصل مع حبيباتهم اللاتي يتحولن إلى شريكات حياة لهؤلاء المشايخ، فنجد مثلا مُقرئ القرآن الشهير الشيخ مصطفى إسماعيل (1905 ـ 1978)، واعتبره الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب أجمل أصوات عصره، يرمي نظره تجاه إحدى الشرفات في احتفال أحد الأعيان بدمياط، شمال القاهرة، فيلمح فتاة صغيرة بوجه بريء صاف، فتسكن صورتها قلبه وتسيطر عليه تماما.

عائشة عبدالرحمن المعروفة ببنت الشاطئ نقلت أشعارها الغرامية للقراء دون حرج
عائشة عبدالرحمن المعروفة ببنت الشاطئ نقلت أشعارها الغرامية للقراء دون حرج

ويعرف لاحقا أنها شقيقة مضيفه، فيطلبها للزواج، ويعرض شقيقها عليها الأمر فتبتسم وتوافق في سعادة ورضا لتعيش معه حياة هانئة يلمع خلالها سريعا ويحوز لقب مُقرئ الملك الراحل فاروق فؤاد، ثم يصبح من بعد ذلك مُقرئ الرؤساء.

وكان هذا الحب دافعا لمسحة تسامح ورُقي عرف بها الرجل طوال تاريخه، حتى أنه ألحق بناته بمدرسة الأميركان كوليدج العصرية، وسمح لهن بلعب التنس، ولم يفرض عليهن الحجاب، ويحتفظ أرشيف الصحافة المصرية بصور له وهو يقف إلى جوار زوجته غير المحجبة في سعادة ورضا.

وذكر الحكيم أن ابن الشيخ كشف له سرا خاصا جدا هو أن والده رفض رفضا قاطعا ختان بناته، معتبرا أن ربط تلك العادة القبيحة بالدين، جهل وافتراء، وروى أن والده أرسله إلى ألمانيا لدراسة الهندسة، وعندما عاد متزوجا من ألمانية مسيحية كان يظن أن والده الشيخ الريفي سيثور ويغضب، لكنه بارك زواجه بتسامح شديد، قائلا “أهم شيء أن تكون بتحبها وتحبك”.

احترام متبادل

يفتح الحب بابا للاحترام المتبادل بين الطرفين يصل بكل طرف إلى تقديم كل ما يقدر عليه لإرضاء الطرف الآخر، وحسبنا أن نقرأ في قصة حب وزواج الفنانة المصرية مديحة يسري من الشيخ إبراهيم الراضي شيخ الطريقة الشاذلية الصوفية (1922 ـ 1976) عن ذلك العطاء غير المتوقع بينهما، والذي وصل إلى قيام الفنانة الشهيرة بإعلان اعتزالها الفن، وارتداء الحجاب تحت تصور إرضاء الشيخ الصوفي، لكنه يُجابه كل ذلك برفض اعتزالها، مؤكدا أن الدين أعمق من التصورات الشكلية، والله ينظر إلى قلب العبد لا مظهره، وموضوع الحجاب هو قرار خاص بها.

 والجميل في هذه القصة أن الحب أولد احتراما شديدا لدى الطرفين، وصل إلى درجة أن الشيخ الراضي قام برد زوجته الأولى تحقيقا لطلب أبنائه، ورأى أن الاحترام بينه وبين زوجته الفنانة يدفعه إلى تخييرها بالبقاء معه أو الانفصال في هدوء، فاختارت الطلاق، لكنهما ظلا على علاقة احترام بعد الانفصال.

وعرفت الفنانة أن هناك قاعدة لدى شيوخ الصوفية بألا تتزوج زوجته من بعده أحدا، فاحترمت تلك القاعدة والتزمت بها، وعندما مرض زارته عدة مرات، وبعد وفاته وقفت تتلقى فيه العزاء، وظلت تتذكره دوريا في موعده كل عام.

شهادات لأبناء مشايخ معروفين أحبهم الناس، تروي قصص الحب التي عاشوها
شهادات لأبناء مشايخ معروفين أحبهم الناس، تروي قصص الحب التي عاشوها

ويذكر الاحترام القائم على المحبة بالشيخ رفاعة الطهطاوي (1801 ـ 1873) عالم الدين المستنير، الذي كان تقدميا في زمانه لدرجة مذهلة، إذ دفعه الحب إلى أن يكتب لمحبوبته في عقد زواجهما مشترطا على نفسه بألا يتزوج عليها أو يتمتع بجارية (كان الرق سائدا) ويسري ذلك حتى بعد رحيلها.

وبالفعل التزم بما تعهد به، وكان طبيعيا أن يكتب الرجل مطالبا بتعليم البنات، ويدعو للزواج القائم على الحب ويعتبر ذلك من مكارم الأخلاق، بل إن المحب إذا هلك فهو شهيد.

ويقيم الحب نوعا من الثقة الخاصة بين الحبيبين، وتلك الثقة جعلت الشيخ محمد سيد طنطاوي (1928 ـ 2010) شيخ الأزهر السابق مُمتنا لزوجته التي أحبها منذ كان طالبا وهي ابنة عمه، وتزوجها صغيرا واعتز بذلك وجاهر به، حتى أنه حكى يوما للفنانة صفية العمري أنه اعتاد منذ اليوم الأول لزواجه أن يضع في يد زوجته كل ما يحصل عليه من راتب شهري، لتتولى الإنفاق على البيت وعلى كل شيء آخر وحتى عليه هو، واثقا في حسن تدبيرها.

وعاش الرجل مع ابنة عمه قصة حب طويلة امتدت لما يقرب من خمسين عاما، ودفعه الحزن على فراقها سنة 2007 إلى الانزواء والعزلة عن الناس والتجهم الطويل، ليموت بعدها بأقل من ثلاث سنوات كبدا وحزنا.

 الشرك بالله

يرتبط فقدان الأحبة بوهن ومرض وتعجل للرحيل، مثلما يحكي ابن الشيخ محمود البنا قارئ القرآن الشهير (1929 ـ 1985) كيف تزوج والداه بعد قصة حب قوية، وعاشا معا أربعة عقود، وبعد رحيله كانت الزوجة تصر على السفر بشكل ثابت كل أسبوع من القاهرة إلى قرية شبرا باص لزيارة قبر زوجها، حتى أن الأبناء كانوا يتعجبون أن تستمر محافظة على هذه العادة الشاقة والصعبة نحو عشر سنوات، حتى لحقت به.

نساء كثيرات كنّ سندا قويا لأزواجهن نتاج ما جمع بينهم من حب ووئام. وما يحكيه الحكيم عن الشيخ محمد رفعت (1882 ـ 1950)، المعروف بقيثارة السماء، أن زوجته زينب تقبلت اضطراره لتربية أبناء شقيقه الذي توفي فجأة في شبابه مع أبنائها إرضاء لزوجها وحرصا على محبته.

 كانت كما يذكر المؤلف جالبة السعد له، إذ علا نجمه، وطبقت شهرته الآفاق وصار له إطلال دائم فى الإذاعة المصرية، وجاب العالم مبدعا في ترتيل القرآن، وتكرر الأمر نفسه مع الشيخ سيد النقبشندي (1920 ـ 1976) شيخ المنشدين الدينيين، الذي اعتبر زوجته سر حظه وشهرته.

سيد النقشبندي الملقب بشيخ المنشدين الدينيين اعتبر زوجته سر حظه وشهرته
 سيد النقشبندي الملقب بشيخ المنشدين الدينيين اعتبر زوجته سر حظه وشهرته

وتبدو الملاحظة الجديرة بالاهتمام أن أحدا من شيوخ التيار السلفي لم يعرض يوما على مستمعيه في الدروس الصاخبة المبثوثة عبر شبكات التواصل الاجتماعي أي جوانب شخصية تشير إلى قصة حب تربطه بزوجة ما، والشائع لدى هؤلاء هو التعدد، كأنه أصل من أصول التدين.

 ويعتبر شيوخ السلفية هيام رجل ما بامرأة يمثل انحلالا، ويراه البعض نوعا من أنواع الشرك بالله، ويتبرأون منه ويحذرون الناس من الحب، ما يعني أنهم لا يمكن أن يفخروا به، مثلما فعل المشايخ الشعبيون في الماضي أو الزمن المعاصر، وليس أدل من ذلك أن نجد رجال دين عظماء لهم مريدون عبر الأزمنة مثل شيخ الصوفية محيي الدين بن عربي لم يأبه أن ينقل لنا جانبا من قصة حبه لفتاة تدعى نظام، وكتب عنها بوله شديد في كتاب “الفتوحات المكية”، مشيرا إلى سحرها وجمالها، وأنها إذا أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت.

ولا يختلف الأمر عند المرأة التي تهوى وتعشق في التصريح بحبها رغم كونها شيخة أو محسوبة على علماء الدين، لذا نجد مثلا الكاتبة الإسلامية الراحلة عائشة عبدالرحمن، المعروفة بـ”بنت الشاطئ” (1913 ـ 1998) تكتب في سيرتها الذاتية كيف وقفت أمام أستاذها أمين الخولي متحدثة عن بحوثها، فوقعت في غرامه، وتمنته لذاتها، ثُم باحت له بحبها، ووافقت على الزواج منه متقبلة أن تصبح الزوجة الثانية له، وتفاخرت الكاتبة أن تنقل للقراء أشعارها الغرامية في شريك حياتها دون شعور بالحرج.

13