حقيقة شكسبير الضائعة في بطون الفئران

على الرغم من الشهرة الواسعة التي حظي بها وليم شكسبير والكتب الكثيرة التي غطت مساحة واسعة من أعماله المسرحية وشخصيته، إلا أن حياته الاجتماعية الخاصّة ظلت بعيدة عن البحث وتسليط الأضواء عليها، مع استثناءات نادرة من حين لآخر، ولعل كتاب “زوجة شكسبير” للكاتبة الأسترالية الأصل جيرمن جرير، يعد واحدا من تلك الاستثناءات التي كشفت جوانب مجهولة من حياة الكاتب الاجتماعية والعاطفية وسلطت الضوء على المرأة التي وقفت خلفه طوال حياته العملية ولم ينصفها المؤرخون وكتّاب السير الذاتية على الإطلاق.
وليم شكسبير، الكاتب المسرحي الأشهر على الإطلاق، شخصية جدلية تناول حياتها ونصوصها الكثير من الباحثين، منهم من فكك معالم الإبداع في نصوصه، ومنهم من تناول حياته، حد أن بعضهم شكك في أن يكون شكسبير شخصا حقيقيا من أصله، لكن يبقى المثير أن أغلب من بحثوا في هذه الشخصية لم يذكروا زوجته.
امرأة في الظل
لم يكن جميع الذين كتبوا عن شكسبير أو أرّخوا لحياته منصفين بحق تلك المرأة، تقول جيرمن جرير، لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث العميق في الجوانب الاجتماعية لحياة الكاتب الأسطوري الذي عاش في القرن السادس عشر ووضع أسس المسرح وفلسفة الدراما، تلك الفلسفة التي خضعت للبحث والتنقيب بواسطة المئات من الكتب على مر القرون، لكن لا أحد انتبه إلى امرأة رضيت العيش في ظل الكاتب العظيم وتحملت نزقه وتقلباته بصبر وبسالة، لذا قررت أن أكتب عن آن هاثاواي، أو آن شكسبير، زوجة الكاتب المُحبة ذات الروح الباسلة التي كانت تكبر الكاتب بثماني سنوات.
لقد تزوج وليم شكسبير آن هاثاوي عندما كان في الثامنة عشرة من العمر، عندها كانت هي في السادسة والعشرين وحاملا في الشهر الثالث بابنتهما سوزان التي ولدت في العام 1583، ومن ثم ولد لهما التوأم جوديت وهامنت بعد سنتين.
توفي وليم شكسبير في العام 1616 ككاتب عظيم وثري إلى حد ما، بعد أن اعترف بزواجه من آن قبل وفاته بفترة وجيزة، في حين بقيت تلك المرأة مجهولة للغالبية العظمى من أصدقائه ومعارفه في الجزء الأعظم من حياته.
لقد عد أغلب كتّاب السيّر الذين أرّخوا لحياة شكسبير (أغلبهم رجال تقول جيرمن جرير)، الكاتب ضحية زيجة من دون حب قلبت حياته جحيما وكادت تقضي على موهبته، عندما كتب عليه العيش مع امرأة بعمر أمه، لكن الحقيقة، حسب جرير، غير ذلك، فقد كانت آن امرأة جيدة بروح مُحبّة وزوجة صالحة، كانت تضع احترام زوجها وموهبته نصب عينيها ومهتمة غاية الاهتمام بعمله، وقد امتدت تلك المسؤولية حتى بعد وفاة زوجها عندما تصدت للإشراف على نشر أعماله في طبعاتها الأولى، لكن للأسف لم يكن ثمة ما يثبت ذلك الآن، تقول جرير، ليس ثمة عقود موقّعة أو فواتير وما شابه، لم يكن الورق قادرا على الصمود في تلك الأزمنة، سيما أن الجرذان في كل مكان وزمان، في إشارة إلى تآمر البعض لإبقاء آن في الظل.
معلومات جديدة
لقد بنت الكاتبة استنتاجاتها بتأن وصبر، وساقت الحجة تلو الحجة لتقارع ما اصطلح على تسميته زواج شكسبير الفاشل، أو الخطأ الكبير في حياته، مستلة تلك الاستنتاجات والحجج من أعمال شكسبير نفسه الذي طالما قدم العلاقات الزوجية الناجحة المبنية على الحب والسعادة في الكثير من مسرحياته، لولا أنه عرف الحب والسعادة الزوجية في حياته الخاصّة لما تمكن من الكتابة عن تلك العلاقات بهذا العمق، تحاجج جرير.
الكتاب يزخر بمعلومات وطروحات جديدة حول شكسبير ويغطي مساحة واسعة من تاريخ المسرح الإنكليزي في القرون الوسطى
لكن هل جميع طروحات جرير في كتابها الجديد صحيحة؟ أعني لجهة عمق المشاعر التي جسدها شكسبير في مسرحياته، سيما وأنه كتب بطريقة جميلة وعميقة أيضا عن زيجات فاشلة وغير سعيدة، ربما كانت جرير على حقّ مستندة إلى بحوثها الحديثة واستنتاجاتها في الفلسفة الاجتماعية، وربما لم تكن كذلك، على الأقل لجهة كونها امرأة أرادت الانحياز لابنة جنسها في النهاية، لا أحد يستطيع الجزم بهذه السهولة في الحقيقة، لكن الشيء المؤكد أن جيرمن جرير قدّمت كتابا مهما للتاريخ الفني والاجتماعي، ولعل أهميته لا تأتي من كونه قد سلط ضوءا على جوانب مجهولة من حياة آن شكسبير ومكانتها فقط، بل تجاوزه إلى تسليط الضوء على جيرمن جرير نفسها ككاتبة وباحثة مهمة تصدّت لموضوعة شائكة ومعقده تتعلق بسلوكيات شكسبير التي لم تتفق الآراء عليها حتى يومنا هذا، سيما وأن الكثير من آثاره قد اختفت في بلده الأصلي إنكلترا، وكثرة المبالغات التي اتسمت بها كتابات الأصدقاء والمحيطين بالكاتب آنذاك.
لكن جرير التي تتسم بالعناد والإصرار على آرائها، أظهرت الكاتب الكبير بصورة مغايرة أحيانا عن تلك التي اعتاد عليها القرّاء، لدرجة أن اتهمها بعض النقاد والمتابعين والكثير من القرّاء الإنكليز أيضا بتعمد الإساءة لتاريخ الثقافة الإنكليزية، وبالنسبة للكتاب فإن شكسبير كان يعربد مع أصدقائه في حانات لندن تاركا آن مع الأولاد في ستراتفورد يقتلهم البرد في ليالي الشتاء الطويلة، كانت تنفخ في النار طوال الليل لينعم أطفالها بالدفء وينامون بعمق، تقول الكاتبة، ثم تسأل، كيف تكون التضحية إذا؟
عموما الكتاب يزخر بالمعلومات والطروحات الجديدة ويغطي مساحة واسعة من تاريخ المسرح الإنكليزي في القرون الوسطى، كما يكشف الكثير من الجوانب العاطفية والنفسية للكاتب الأسطوري ليطّلع عليها القرّاء والمتابعون أوّل مرّة، وهو بالتأكيد جدير بالقراءة والاقتناء.