حقول الألغام بين تركيا وصندوق النقد الدولي

يمر الاقتصاد التركي بأوقات صعبة، مثل بقية الاقتصادات الأخرى. لكن في حالة تركيا، فإن درجة الصعوبة فريدة من نوعها.
فالسياسات النقدية والمالية لحزب العدالة والتنمية خلال السنوات الماضية والآثار الدائمة لأزمة العملة عام 2018، تضع الحكومة في مأزق حين تسعى للتعامل مع أزمة وباء كورونا.
ويبدو أن حزمة المساعدات الأولية (15 مليار دولار) التي قدمتها الحكومة لمجابهة الوباء قد عفا عليها الزمن، بعد أن تأخرت الحكومة في استيعاب الأزمة. وبالتالي، لا يوجد دعم مالي فعلي في البرنامج للمجموعات الأكثر تأثرا بالوباء.
كما هو الحال في جميع الاقتصادات النامية، فإن أزمة فايروس كورونا تضرب الشركات الصغيرة والمتوسطة في تركيا بشدة، وبالتالي تتطلب من الحكومة تركيز اهتمامها وأموالها على هذه الشركات وعلى ذوي الأجور المنخفضة.
لسوء الحظ، لا تملك تركيا الموارد المالية لإبقاء مثل هذه المساحة الواسعة من الاقتصاد واقفة على قدميها. عندما يتم تضمين ديون القطاع الخاص التي خلفتها أزمة العملة عام 2018، تصبح المعركة ضد أزمة فايروس كورونا أكثر تعقيدًا ومحفوفة بالمخاطر.
معدل التضخم في تركيا البالغ 12 في المئة أعلى 3 مرات من المتوسط في الاقتصادات النامية. وفي الوقت نفسه استنفدت زيادة الإنفاق في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية لعام 2018 وفي أعقابها، عندما وقعت أزمة العملة، عشرات المليارات من احتياطيات البنك المركزي. وتضاعف عجز الميزانية ليصل إلى 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
في غضون ذلك، توقفت العملة الأجنبية عن التدفق واستنفد البنك المركزي خلال الأشهر العشرة الماضية احتياطياته لمساعدة الحكومة على تحفيز النمو الاقتصادي مع احتواء التضخم.
القيود المفروضة على مقايضات النقد الأجنبي، التي تم تشديدها مرة أخرى الأسبوع الماضي، تجعل من المستحيل تقريبا على تركيا الحصول على العملة الصعبة. لم يعزز التسهيل النقدي من قبل البنك المركزي الأميركي الليرة التركية، مما يثبت أن المعروض من العملات الأجنبية ليس كافيا لتلبية الطلب.
كما يبدو أن جهود الحكومة في تأمين صفقات المقايضة مع الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي باءت بالفشل. يدفع حزب العدالة والتنمية الثمن الآن من الدرس الصعب عندما داس على استقلالية البنك المركزي ولم يترك تركيا فقط عاجزة عن السيطرة على التضخم، وإنما تركها أيضًا خارج الاتفاقيات الدولية.
إن الطرق المسدودة المتعلقة بالسياسة الاقتصادية التي تواجهها الحكومة الآن هي بالطبع نتيجة للقرارات التي اتخذتها في السنوات القليلة الماضية. وقد تركت هذه القرارات الآن أيدي تركيا مقيدة وهي تحاول التعامل مع تأثير الفايروس. إن اعتماد تركيا على موارد العملات الأجنبية لتحفيز النمو الاقتصادي ليس قضية هيكلية.
بعد الاتفاق الاحتياطي الأخير مع صندوق النقد الدولي، الذي انتهى في عام 2008، تمكنت القيادة السياسية في تركيا من اجتذاب رأس المال الأجنبي بسبب معدلات الفائدة الصفرية حول العالم والسيولة الشديدة في السوق.
يمكن للمرء أن يجادل حول جودة النمو الاقتصادي في تركيا، أو كيف تم تخصيص هذه الموارد الرخيصة لتحقيقها. لكن ثقة الحكومة المتزايدة بالذات التي فاضت في فترة ما بعد عام 2008 أصبحت عاملاً محددًا في كيفية تعاملها مع أزمة العملة عام 2018 عندما عُرضت عليها مساعدة صندوق النقد الدولي، على عكس الأرجنتين، دون حتى الجلوس إلى طاولة الحوار مع مسؤولي الصندوق لمناقشتها.
تمامًا كما كانت تكلفة التقديم إلى برنامج صندوق النقد الدولي تعني أن يتخلى حزب العدالة والتنمية عن سيطرته المطلقة على الاقتصاد، فإن تكلفة عدم اختيار صندوق النقد الدولي في عام 2018 كانت مرة أخرى سبباً في خلق اختلالات في الاقتصاد الكلي.
على الرغم من القصص الأسطورية للنجاحات الاقتصادية التي حققتها الحكومة في الماضي، والتي غالبًا ما يذكرها الاقتصاديون الأجانب كأساس للأمل في المستقبل، فقد وصلت تركيا إلى نقطة لا تستطيع فيها معالجة التداعيات الاقتصادية للفايروس التاجي (كورونا).
بالنظر إلى مثال برنامج الأرجنتين لعام 2018، كان من الممكن أن تكون صفقة صندوق النقد الدولي بمثابة حبة مريرة تبتلعها الحكومة. ومع ذلك، فإن السبب الحقيقي وراء امتناع حزب العدالة والتنمية، الذي كان في السلطة لمدة 18 عامًا تقريبًا، هو الشفافية والقيادة المشتركة التي كانت ستأتي مع الصفقة.

اليوم كذلك هذا هو السبب الذي جعل حزب العدالة والتنمية يدير ظهره لصندوق النقد الدولي، حتى عندما يواجه المشاكل الاقتصادية الهائلة الحالية الناتجة عن هذه الكارثة الطبيعية. لكن صندوق النقد الدولي يتغير بسرعة ولم يعد صندوق النقد الدولي الذي نعرفه.
بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، حيث صوتت الأغلبية في مختلف البلدان على الحكومات الراديكالية المتزايدة في السلطة، بدأ صندوق النقد الدولي في أخذ مؤشرات مثل توزيع الدخل بعين الاعتبار. لكن الصدمات العالمية التي يسببها الوباء الآن يمكن أن تحول الصندوق إلى مؤسسة مختلفة تمامًا.
بدأ صندوق النقد الدولي الآن في توفير الفرص للدول الأعضاء الأكثر جاذبية بكثير من اتفاقيات الائتمان الملزمة الاحتياطية التي لا تحبها حكومات مثل تركيا بشدة.
في هذه الأوقات غير العادية، عندما يتأذى كل شخص تقريبًا في تركيا من الناحية المالية، يجب أن يجد حزب العدالة والتنمية مخرجًا من الزاوية التي وضع فيها البلد، على الرغم من أنه قد يتعارض مع مخططه الخاص للبقاء السياسي. يبدو أن صندوق النقد الدولي هو الخيار الوحيد المتبقي.
ربما يكون التحالف الأكثر جاذبية الذي أنشأه صندوق النقد الدولي خلال أزمة الفايروس، والذي يستخدم مبلغ تريليون دولار خصصه لمنع الوباء من تحطيم الاقتصاد العالمي، هو اتفاقه مع منظمة الصحة العالمية.
وضع صندوق النقد الدولي الإنفاق على الرعاية الصحية على رأس قائمته، وهو يعطي الأولوية لمساعدة الأطباء والممرضات والمستشفيات والأشخاص الأكثر ضعفاً وشراء المعدات الطبية. وفي الوقت نفسه يخلق خيارات تمويل واسعة للحد من البطالة والإفلاس وتأمين الانتعاش الاقتصادي على المدى الطويل.
ويعمل الصندوق أيضًا مع البنك الدولي لمحو ديون البلدان الأكثر فقراً ويعتزم استخدام خطوط الائتمان الحالية لتوسيع مجموعة السيولة الطارئة إلى 100 مليار دولار من 50 مليار دولار لمساعدة الأسواق الناشئة.
بالطبع، صندوق النقد الدولي ليس ملاكاً دون أجنحة. ولكن يجب أن يخضع الصندوق الآن لعملية تحول جديدة لحماية النظام العالمي. سيكون العامل الرئيسي هنا هو ما إذا كانت حكومات أكبر الاقتصادات في العالم مثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان تساهم بأموال لصندوق النقد الدولي، لإضافتها إلى مبلغ التريليون دولار الذي تم الإعلان عنه، بالفعل أم لا.
وبالعودة إلى تركيا، فإن مجموعة كبيرة من مدفوعات القروض بالعملات الأجنبية ستأتي قريبًا. ستتبع ذلك أيام صعبة. لن تنقذ مبادلات العملة ولا استثمارات صندوق الثروة السيادية أو الصادرات أو السياحة حزب العدالة والتنمية من الطريق المسدود الذي وصل إليه. جفت احتياطيات البنك المركزي النقدية لمدّة طويلة.
حتى تتمكن الحكومة من التغلب على هذه الأيام الصعبة، سيتعين على الرئيس رجب طيب أردوغان مواجهة الواقع، وتحديد موارد صندوق النقد الدولي الأكثر ملاءمة لتركيا للتقدم بطلب، وتقديم تنازلات من أجل إنقاذ سفينته.