حضن أمي

الاثنين 2015/03/23

كنت أتمنى أن أنتقي أجمل الهدايا وأثمنها، وأفترش كل الطرقات بالورود، أعطر الهواء الذي تتنفسه أمي ابتهاجا بعيدها.

لكنني لن أفعل، تمارضت حتى ألوذ بالفرار من إحضار هدية لامرأة لا تعرف عني شيئا ولا يربطني بها سوى اسمها المدون في شهادة ميلادي. لعلي أرسل لها رسالة ليتها تستطيع قراءتها.

جالت بعينيها في الأفق، تفحصت اللاشيء ثم فاجأتني ابنة جارتي المراهقة، بسؤال صادم.

هل لحضن الأم حقا طعم كما يزعمون؟، هل تحتضن الأم أبناءها حين يخطؤون وتسامح وتصفح؟، تحب وتحنو ترق وتهدهد، هل يستدفئ الأبناء بأحضان أمهاتهم؟، ويسعهم ذلك الحضن إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، هل تضع الأم أبناءها في “بؤبؤ العين”، وتكتحل بالمحبة وتتدثر بنجاحهم؟

كانت الكلمات تخرج من قلب الفتاة لا من شفتيها، واستشعرت حرارة التنهيدة عندما قالت: يقولون إن “عقوق الأبناء لآبائهم حرام”، فماذا إذا عاقتني أمي قبل أن أعوقها؟ تقسو وأنا أتعطش للحنان، تصمت عندما أدعوها للكلام، تحب أخي وتعامله بكل ود وحنان، وتدعو الله تعالى من أجله أمامي دون أن يكون لي نصيب من هذا الدعاء، تزرع الغيرة بيني وبين شقيقي بقدر ما تفرق في معاملتنا.. هل، وهل، وهل؟

وانفجرت الفتاة بأسئلة، أزعجتني وأرقت ليلتي، ومزقت هدوء يومي، ومكثت أفكر كيف تتقاسم مشاعر الوحدة ومرارة اليتم فتاة تحيا إلى جانب أمها وأبيها، كيف يفصل البعد أما عن أبنائها وهي على قيد الحياة، وربما تسكن الغرفة المجاورة؟ هل تكره الأم أحيانا أبناءها دون وعي؟، أتفرق في المعاملة والحب بين الأبناء عن عمد؟، أتقع في بئر العقوق وهو سلاحها الذي دائما ما تشهره في وجه الأبناء عندما ترفع صوتها المبحوح بعد أن ضاقت بكل الحلول “قلبي وربي غاضبانين عليك يا بن بطني”. فيجرحها نفس السلاح وتحترق بنار العقوق التي تصوبها تجاه فلذات الأكباد.

لم أكن أتخيل أن أستمع يوما لهذا السؤال الذي طالما اعتبرته افتراضيا، لا ينتمي لعالم الحقيقة، مشهد خاطف في سينما سوداء تقلب الأمور حتى تداعب شباك التذاكر.

لكنه حقيقة تشظّى من أجلها قلب الفتاة المراهقة وهي تبحث عن حضن دافئ تبكي بداخله، قلب حنون تبوح له بأسرارها وتبتسم ابتسامة خجل وهي تقص على مسامع أمها تفاصيل حبها البريء وخوفها من المستقبل.

كيف للأم أن تضيع حقها في صداقة ابنتها تحت أي مسمى؟ لماذا تفرق بعضهن بين الذكور والإناث؟ لا لشيء إلا تفرقة جنسية مذمومة وعادات عجيبة لم يعد لها حاضن سوى بعض أسر عربية تحمل بقية من عادات جاهلية مقيتة.

قد يكون هذا المقال صادما، جارحا، يعتبره البعض جملة اعتراضية ونحن في خضم الاحتفالات بعيد الأم وصوت الرائعة فايزة أحمد تشدو بكلمات حسين السيد وأغنية “ست الحبايب” وألحان محمد عبدالوهاب تهدهد مشاعرنا، ولكنني أعنيه حقا، فالأمومة بحد ذاتها ليست ميزة تفضيلية لامرأة دون أخرى ولكنها تستحق الاهتمام وبذل الجهد، يستحق أبناؤنا الكثير طوال العام حتى نهنأ بهدية جميلة في يوم الأم ولا نركن لكوننا فقط أمهات.

وكل عام وكل أم “حقيقية” بألف خير.

21