حصانة دستورية للخصخصة من المعارضة السياسية في مصر

يفتح قرار المحكمة الدستورية في مصر، برفض دعوى عدم دستورية قانون تنظيم إجراءات الطعن في عقود الدولة، المجال أمام بيع الممتلكات العامة، وهو ما يعارضه مصريون وأحزاب معارضة.
القاهرة - لا تزال قوى المعارضة في مصر تفكر في الخطوة المقبلة بعد أن فاجأتها المحكمة الدستورية برفض دعوى عدم دستورية قانون تنظيم إجراءات الطعن في صحة عقود الدولة.
وتعني هذه الخطوة أن الحكومة مخول لها البيع، وهي الجهة الوحيدة التي يحق لها الاعتراض، أو الجهة المقابلة أي المشتري وغالبا ينتمي إلى دولة أجنبية، وبالتالي على المعارضة أن تقبل بالأمر الواقع في مجال الخصخصة طواعية ووفقا للمحكمة الدستورية، المعروف أنها أعلى محكمة في البلاد.
تأتي الأزمة من أن قرار المحكمة الدستورية، الذي اتخذ السبت، يقطع الطريق على الطعن فيه بصورة قانونية لاحقا، وقد يولد معارضة سياسية كأداة وحيدة يمكنها التعامل معه، لكن الحكومة غير منزعجة فلم تعد هناك أحزاب أو نقابات أو حركات سياسية بمقدورها الضغط عليها لإجبارها على تغيير موقفها.
ويهدف قرار المحكمة الدستورية إلى توفير مساحة للحركة أمام الحكومة للمضي قدما في برنامج الخصخصة الذي لم يعد أمامها بديلا عنه لتخفيف حدة الأزمة الاقتصادية من خلال عرض بعض الشركات والمؤسسات والأراضي المملوكة لها للبيع لمستثمرين، غالبا من دول خليجية، للحصول على مردود من العملات الأجنبية.
ويواجه التوسع في الخصخصة، التي أوصى بها صندوق النقد الدولي في تقرير أخير له حول الإصلاح الاقتصادي، باعتراضات شعبية يمكن أن تفرمله إذا واصلت صعودها في الشارع، وهو ما دفع الحكومة إلى تحصين ذلك خوفا من اتساع نطاق الرفض وما ينجم عنه من هواجس لدى المستثمرين الجدد.
الحكومة تدرك أن بعض الدول الخليجية التي تريد الاستثمار في مصر قد تدفعها الممانعات الشعبية إلى التردد
واستفادت الحكومة من تجربة الرئيس الراحل حسني مبارك عندما أقدم على خصخصة بعض الشركات وصدرت ضد الحكومة أحكام قضائية بالرفض، ورغم أن معظمها لم يتم تنفيذها إلا أن تداعياتها السياسية والشعبية كانت وخيمة في القاهرة.
وتشعر الحكومة بأن بعض الدول الخليجية التي تريد الاستثمار في مصر بشراء شركات وتطويرها يمكن أن تؤدي الممانعات الشعبية إلى ترددها خوفا من مواجهة تحديات دستورية مستقبلا تقود إلى الطعن في عمليات البيع وسخط شعبي، إذا جرى تغيير النظام الحاكم لسبب ما.
ولا يخلو قرار المحكمة الدستورية من تسييس، حيث وفر ضمانات للحكومة ووضع قاعدة صارمة للطعن في البيع استنادا إلى دواعي تتعلق بالأمن القومي، ما يطمئن المستثمرين ويزيل مخاوف زادت عقب ارتفاع الخطاب الرافض للمساس بمؤسسات حيوية أو تلك التي تتعلق بميراث تاريخي وعاطفي في الوجدان الشعبي العام.
وفي هذا السياق هناك ما يؤثر على الهالة أو القداسة التي تحتلها المحكمة الدستورية لدى رجال القانون والمواطنين العاديين، فهي الملاذ عند حدوث تجاوزات تشريعية فتقوم بالفصل فيها، وتراعي قراراتها أحيانا المزاج الشعبي في القضايا القومية.
وتعني الخطوة أن عملية الخصخصة سوف تكون كبيرة ومثيرة للانتباه ويمكن أن تتطرق إلى مؤسسات وشركات تحظى بحصانة معنوية، والنظام المصري غير مستعد للدخول في نقاش حول من ولماذا وكيف ومتى وإلى أين، وأسئلة أخرى لا يريد سماعها في هذه الأجواء، فقد حدد وجهته مبكرا نحو المضي في طريق الخصخصة ولا يريد عوائق تمنعه لندرة الخيارات الأخرى المتاحة.
ويقول مراقبون إن منع الاعتراض أو حق “الفيتو” على أي جهة، سوى البائع (مصر) أو المشتري (المستثمر)، يريح الطرفين حاليا لكنه لا يضمن عدم وجود معارضة سياسية تفوق نظيرتها القانونية، لأن الأولى يمكن أن تأتي قاسية إذا أجمع الشارع على رفض برنامج بيع بعض الشركات ووفر دعما لقوى المعارضة.
وحققت الحكومة والنظام الحاكم هدفا آنيا عبر الصيغة التي ينطوي عليها تقنين الفيتو وكبحه بشكل دستوري، غير أن الخطوة أثارت شبهات حول جميع الخطوات التي تتخذ في مجال الخصخصة، وربما يكون بعضها مطلوبا ولا مفر منه، فالطريقة التي جرى بها تحصين عملية الاعتراض تحمل شكوكا في الخطوات المقبلة.
وصدر قرار المحكمة الدستورية العليا ولم يحظ بمعالجة إعلامية سوى في الوسائل التابعة لقوى معارضة أو على صفحات التواصل الاجتماعي، ولم تتوقف عنده بالشرح والتفسير والتوضيح وسائل الإعلام العامة والخاصة التابعة للحكومة، وهي علامة على عدم توافر حسن نوايا، ما يفتح الباب أمام الكثير من الريبة والقلق، بل يعرّض أعلى محكمة في البلاد للاستهداف العام.
الحكومة المصرية استفادت من تجربة الرئيس الراحل حسني مبارك عندما أقدم على خصخصة بعض الشركات وصدرت ضد الحكومة أحكام قضائية بالرفض
وتمكن النظام المصري من تدجين كافة مؤسسات الدولة وتجييرها لصالح ما يقوم به من خطوات، بصرف النظر عن مدى الصواب أو الخطأ فيها، لكن هذه الطريقة وضعت قيودا على المؤسسات الحية في الدولة وجعلت حركتها مصوبة في الاتجاه الذي يريده النظام الحاكم فقط دون اعتداد بالمعارضة وجدواها.
ويشير المراقبون إلى أن الطريقة التي يسير بها برنامج الخصخصة تضع علامات استفهام حول مؤسسات كبيرة وتثير شبهات بشأن قراراتها، وهذا لا يصب في صالح الدولة، ويفرغها من بعض قواها التي تمثل صمام أمان للنظام الحاكم والمواطنين، فكلما حدث تغول على دور إحداها تتراجع الثقة بين الطرفين.
ويزيد القرار الذي اتخذته المحكمة الدستوريةُ الأعباءَ على الحوار الوطني المتعثر، وتعول عليه المعارضة للتفاهم مع الحكومة حول قواسم سياسية واقتصادية واجتماعية مشتركة لعبور المرحلة الراهنة وما سببته الأزمة الاقتصادية من مشكلات.
ويمكن أن يضاف هذا القرار إلى جدول أعمال الحوار الوطني ويضاعف الجدل حول القضايا المطروحة البعيدة عن التوافق حتى الآن، وتتعلق غالبيتها بسياسات الحكومة الخاطئة وأهمية تصويبها عاجلا.
ويحمل قرار المحكمة تشابكات عدة لا تنحصر في الشق السياسي الذي دفع الحكومة إلى الإيحاء بأهميته من ناحية الأمن القومي، بل تشمل أيضا الشق القانوني المترتب عليه وما يرمز له من دلالات توحي بأن كل شيء قابل للتطويع لإرادة النظام الحاكم دون اعتبار لثوابت أو قواعد تستند عليها البنية القانونية لدولة ضاربة في عمق التاريخ.