"حصار سلفيرتون".. سطو وعنف من أجل الإفراج عن مانديلا

لا تزال صفحات كفاح السود في مواجهة نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا تحمل في طياتها الكثير من القصص والمآسي أيضا، ووقائع تتميز بكون شهودها لا يزالون أحياء، فضلا عن وجود المزيد من أولئك الشهود والمشاركين في ذلك النزاع يستحقون أن يُعرفوا وأن تُسمع شهاداتهم وأدوارهم.
ويبدو أنه من هذا المنطلق تم إنتاج فيلم “حصار سلفيرتون” للمخرج ماندلا ديوب الذي يحكي فصولا من تاريخ الفصل العنصري، حيث تقع الأحداث في مطلع الثمانينات وخلال قيام خلية من المقاومة في جنوب أفريقيا بتنفيذ خطة استهداف المراكز الحيوية لنظام الفصل العنصري، بما في ذلك مراكز الوقود والطاقة.
لكن تلك العملية تفشل بسبب وجود خيانة أدت إلى اختراق الخلية ومطاردتها بلا هوادة في شوارع مدينة سلفيرتون، لينتهي المطاف بأولئك المقاومين إلى دخول المصرف الرئيسي في المدينة من دون قصد، ومن ثم يضطرون إلى احتجاز زبائن المصرف وموظفيه وحراسه رهائن، وتتحول القصة برمتها إلى نوع من الأعمال الإرهابية التي تستدعي تدخل السلطات بكل أدواتها.

الفيلم حقق موازنة موضوعية ما بين عنصري العنف والحركة والصراع المتصاعد وبين القصة الاجتماعية بشخصيات تعاني العنصرية
يبرز هنا الدور الرئيس لزعيم المجموعة كالفين (الممثل ثابورا ميتسي) الذي يسعى جاهدا إلى تجنب أن يصاب المدنيون بأذى تسانده صديقته تيرا (الممثلة نوكسو لودلاميني)، وخلال تلك المهمة تتعزز شكوك تيرا بوجود خيانة راح ضحيتها حبيبها الذي يشاركها أعمال المقاومة، ولكن مسألة الكشف عن الخائن هي التي يجد الجميع أنها عملية صعبة مع أن الخائن كان بينهم.
في المقابل يتولى الضابط لونغيرمان (الممثل أرنولد فوسلو) وزميله مهمة التفاوض مع كالفين ومجموعته، محاولا إنقاذ الرهائن، لكن الأمر يتطور عندما يطالب كالفين بالإفراج عن الزعيم الجنوب أفريقي الكبير نيلسون مانديلا في عفو خاص يصدره رئيس الحكومة، ويتحول ذلك المطلب إلى صدمة حقيقية لكونه من صلاحيات رئيس الحكومة، وهو ما سوف يطالب به كالفين ولا يريد التنازل عنه.
تبدو العلاقة بين الثنائي كالفين ولونغيرمان اختصارا للمأزق الإنساني والوجودي الذي يعصف بالجميع، فالضابط يريد حلا بأقل الخسائر ومع أنه ضابط أبيض، إلا أنه لا يتميز بالعنصرية تجاه السود، ولكنه يقوم بواجب رجل الشرطة، فيما هنالك موج من العنصرية الفاضحة ما يلبث أن يتدفق مع تتابع أحداث الفيلم.
هنا سوف تتجسم بشاعة النسيج الاجتماعي المتنافر بين البيض والسود، فالسود ما ينفكون يروون معاناتهم بصوت عال ومشاعر الإذلال والاحتقار تجاههم، وصولا إلى قتل أو إبادة عائلاتهم بالكامل، وهو ما يرويه كالفين من ذكريات طفولته، وهو ما سوف يدفعه إلى الانضمام إلى المقاومين.
هنالك خط سردي آخر يتمثل في المتعاطفين في وسط تلك الأزمة الإنسانية مع السود في محنتهم، وهو ما سوف يتجسم في الرهائن المحتجزين في داخل المصرف، فهم ليسوا إلا مجتمع جنوب أفريقيا مصغرا يحمل معه كل سلبيات القهر العنصري ومآسيه، وتجد أن تلك اللوثة قد طالت الجميع والتي سوف تتجسم في نظر الآخر – الأبيض – إلى السود، فهم مهما كانوا ليسوا إلا ثلة من اللصوص والأشخاص السيئين الذين لا يرتدعون.
هذه الإشكالية ما تلبث أن تتجسم من خلال شخصيتين أخريين وهما راشيل (الممثلة ميشيل موستالاكاي) وهي نتاج زواج مختلط وتبدو ملامحها محيرة، لكنها تستغل بياض البشرة في مقابل الملامح الأفريقية للوجه لغرض أن تمثل دور الفتاة البيضاء، بينما هي تحمل في داخلها مآسي السود، وهو ما سوف يتجسم لاحقا.
الفتاة الأخرى هي كريستين (الممثلة ايلانيديكر) وهي مديرة المصرف، وهي فتاة بيضاء ولا تريد أن تكشف عن كونها ابنة وزير العدل، ولهذا تطالب الشرطة بالإفراج عنها في مقابل الماء والطعام للمحتجزين، لكنها ترفض الخروج وتقرر البقاء ومشاركة الآخرين محنتهم.
هذان الخطان الدراميان شكلا أرضية مناسبة لفهم حدود الإشكالية الاجتماعية والنفسية المعقدة، التي تحولت إلى معضلة اجتماعية أدت إلى ذلك الصراع الدامي والانتقام الشرس الذي لا هوادة فيه بين الطرفين، وبذلك حقق الفيلم موازنة موضوعية ما بين عنصري العنف والحركة والصراع المتصاعد وبين القصة الاجتماعية التي ركائزها شخصيات تعاني من وطأة ذلك الواقع القائم على الصراع والانتقام.
كل ذلك سوف يعززه ظهور الجنرال مسؤول الشرطة الذي سوف يأتي ومعه أفواج من القناصين والكلاب البوليسية، مما يجعل المواجهة واقعة لا محالة بين الطرفين، ففي الوقت الذي رفض فيه الضابط لونغيرمان اقتحام المكان، كان هدف مدير الشرطة عكس ذلك، وهو ما سوف يجعل ابنة وزير العدل أولى الضحايا بعد انضمامها للمطالبة بالإفراج عن نيلسون مانديلا، لكن عقابها كان سريعا بإردائها قتيلة.
بالطبع تكتسب أحداث الفيلم شكل مغامرة في ظاهرها، لكنها في الواقع ما هي إلا تأسيس للحركة الشعبية التي تصاعدت بعد تلك الوقائع والمطالبة بالإفراج عن مانديلا، وهو ما تحقق بعد عشر سنوات على حصار سلفيرتون، وبذلك أوفى الفيلم لأولئك الرجال الذين دافعوا عن قضيتهم وفضح فصلا من فصول الفصل العنصري.