حسين حبري مصائر أبناء الأيديولوجيا الثورية بعد هوس السلطة

السبت 2015/07/25
حبري أمام محكمة جرائم الحرب

يلقب المحامي الأميركي ريد برودي الذي ينتسب إلى منظمة “هيومن رايتس ووتش” بـ”صياد الديكتاتوريين”، فاعتمادا على الملفات التي أعدها، تمت محاكمة الجنرال بينوشيه وعيدي أمين دادا وجان-كلود دوفالييه ومانغستو هايلي ماريام.

وكان على ريد برودي أن يمضي قرابة العقدين ليجمع الوثائق التي بموجبها تتولى الآن في العاصمة السينغالية داكار، محكمة أفريقية خاصة محاكمة ديكتاتور التشاد السابق حسين حبري بتهمة اقتراف جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب، وجرائم تعذيب.

ضحايا حبري

تشير الوثائق إلى أن عدد ضحايا المتهم الذي كان يلقب بـ”محارب الصحراء”، والذي حكم التشاد من عام 1882 إلى عام 1990، يفوق الأربعين ألفا، منهم من قتل، ومنهم من أخضع لعمليات تعذيب وحشية أصابته بتشوهات جسدية ونفسية يصعب علاجها.

وقد أدلى هؤلاء بشهادات مروعة تثبت بالحجج القاطعة جرائم حسين حبري الوحشية، ويقول كليمان أبايفوتا إن السنوات الأربع التي أمضاها في سجون حسين حبري كانت بمثابة “الفترة الفارغة في حياته”. فكأنه لم يعشها أصلا. وكان في الثالثة والعشرين من عمره لما قرر السفر إلى ألمانيا لاستكمال تعليمه العالي، غير أن جهاز الاستخبارات السياسية قام باعتقاله من دون تحديد أيّ تهمة، وخلال فترة اعتقاله كان يتم تعذيبه وتجويعه وإهانته يوميا. وكان الحراس يجبرونه على دفن من يقضون في الزنازين بسبب التعذيب أو بسبب الجوع والإهمال.

ويضيف كليمان أبايفوتا قائلا بأنه يعيش حياته منذ خروجه من السجن وكأنها كابوس مروّع لا نهاية له. وفي الشهادة التي أدلت بها، تقول جينات نغارباي “أتمنى أن تكون محاكمة هذا المجرم – تعني حسين حبري- نهاية النفق المظلم الذي عاشته بلادي. فقد اتهمت بالانتساب إلى مجموعة معادية للنظام. وذات فجر تم إيقافي، وكنت حاملا. وقد وضعت ابني على اسمنت الزنزانة التي كانت وسخة ومليئة بالحشرات والقمل والفئران. وأنا كنت أبكي وابني الذي وضعته قبل حين يبكي هو أيضا، وكانت السجينات يشاركننا البكاء”.

الخلافات بين الرئيس غوكوني عويدي ووزير دفاعه حسين حبري، تدفع كلا من باريس وواشنطن إلى الوقوف إلى جانب حبري إذ أن الأول لم يكن يخفي تحالفه مع القذافي تاركا إياه يسيطر بسهولة على منطقة "أوزو"، ثم على جزء كبير من البلاد

وتقول جينات “عندما أطلق سراحي، كان رجال نظام حسين حبري يترددون عليّ لتحذيري من مغبة الإشارة إلى ما عانيته في السجن. وكانوا يقولون لي: إن أنت تفوهت بكلمة واحدة فإنك ستجدين نفسك في الزنزانة ثانية”.

وفي شهادتها تقول السيدة زكريا فضول خذير التي ترأس جمعية ضحايا الطاغية حسين حبري “لقد فقدت من عائلتي الصغيرة والكبيرة 46 شخصا تم إعدامهم من قبل جهاز الاستخبارات السياسية. وأعتقد أن محاكمة حسين حبري ستكون لها أبعاد أخلاقية وسياسية كبيرة في القارة الأفريقية كلها. ولا بد من تقديم تعويضات للضحايا، فالمزارع المسكين الذي فقد أبناءه الثلاثة لن يكتفي بحكم تصدره المحكمة حتى ولو كان هذا الحكم قاسيا. أما أنا فسأقول لحسين حبري عندما أقف أمامه في المحكمة: مهما طال الليل فإن الصباح لا بد أن يطلع ليشع بنوره على الكون”.

لا تكاد تختلف سيرة حسين حبري عن سير العديد من الطغاة الذين عرفتهم القارة الأفريقية خلال السبعين سنة الماضية، والذين اقترفوا جرائم وحشية ضد شعوبهم، وضد المعارضين لحكمهم. وهو ينتسب إلى قبيلة الأنكزة التي هي فرع من فروع قبيلة الفرعان الكبيرة، وكان مولده في العام 1942 في كايا لارجو. وقد أمضى طفولته بين الرعاة البدو. وفي سنوات شبابه عمل في البريد، ثم حصل على منحة خولت له السفر إلى باريس لدراسة العلوم السياسية.

وخلال سنوات الدراسة فتن بكتابات فرانز فانون، ورايمون أرون، وبشخصية تشي غيفارا، ودرس سير الثوريين في أفريقيا وآسيا مبديا إعجابا كبيرا بالبعض منهم. وأمام رفاقه في الدراسة، كان يحلو له أن يفاخر بثوريته، مستعرضا ما كان يقرأه من كتب.

وعند عودته إلى بلاده مطلع السبعينات من القرن الماضي، جمع حبري حوله أنصارا، واستقر في منطقة “تيبسي” الصحراوية، حيث تنتصب الجبال السوداء. وفي مغاورها، شرع في تدريب أنصاره على فنون القتال، ولكي يلفت أنظار العالم إليه وإلى حركته التمردية، اختطف عالمة الإثنولوجيا الفرنسية فرانسواز كلوستر.

ومنذ ذلك الحين، دأبت وسائل الإعلام الفرنسية على الحديث عنه وعن حركته التمردية بإطناب، خصوصا بعد أن أقدم على قتل المفاوض الفرنسي بيار غالوبان. أما الأميركيون الذين كانوا يعيشون آنذاك هواجس الحرب الباردة، فقد أولوا حسين حبري اهتماما كبيرا آملين أن يكون نصيرا لهم في قارة تعج بالحروب والنزاعات بين الدول الكبرى، وبين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي من أجل كسب مناطق نفوذ، والسيطرة على الثروات الطبيعية. وقد ازداد إعجاب رجال واشنطن بحسين حبري لما عاينوا أنه مقاتل صحراوي شجاع وعنيد.

السلطة التي غنمها حسين حبري تجعله ينقلب على نفسه وعلى أفكاره الثورية، ليصبح واحدا من أشرس الطغاة الذين عرفتهم القارة الأفريقية، مطلقا رجال جهاز استخباراته السياسية لترويع كل المعارضين له، وملاحقتهم، وقتلهم، وتعذيبهم بطرق وحشية ، مصدرا قرارا يقضي بإعدام كل أسرى الحرب الأهلية

حبري خيار أوروبي أميركي

عيّن حسين حبري في العام 1979 وزيرا للدفاع في حكومة الوحدة الوطنية التي كان يزعمها غوكوني عويدي. غير أن الخلافات سرعان ما استفحلت بينه وبين هذا الأخير. وكان واضحا منذ البداية أن حسين حبري لا يريد أن يكون شخصية ثانوية في دولة تهددها مخاطر داخلية وخارجية كثيرة. فقد كان القذافي يتحرك آنذاك، ويعد جيشه ليسيطر على جزء من التشاد، وكان من الطبيعي أن تنظر كل من واشنطن وباريس إلى طموحات القذافي بغضب، وأن تشرع كل واحدة منهما في التخطيط لكسر تلك الطموحات لقطع الطريق على رجل طرابلس الذي كان يحلم بإمبراطورية صحراوية مترامية الأطراف.

وعندما اشتدت الخلافات بين غوكوني عويدي وحسين حبري، اختارت كل من باريس وواشنطن الوقوف إلى جانب هذ الأخير إذ أن الأول لم يكن يخفي تحالفه مع القذافي تاركا إياه يسيطر بسهولة على منطقة “أوزو”، ثم على جزء كبير من البلاد.

وقد منيت المحاولة الأولى التي قام بها حسين حبري للسيطرة على العاصمة التشادية نجامينا بفشل ذريع ذلك أن قوات القذافي هبت لمعاضدة غوكوني عويدي الذي اضطر إلى التراجع .غير أن المحاولة الثانية التي قام بها في عام 1982، والتي حظيت بمساندة مطلقة من كل من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، التي كانت قد أعلنت الحرب على القذافي “الرأس المدبر للإرهاب العالمي”، مكنته من إلحاق هزيمة فادحة بخصمه، والدخول منتصرا إلى العاصمة التشادية.

الحرب على الشعب

حالما استلم السلطة، انقلب حسين حبري على نفسه وعلى أفكاره الثورية، مهملا كل ما تعلمه من فرانز فانون ومن رايمون أرون ومن سير الزعماء الثوريين الذين كانوا له قدوة في بداية مسيرته السياسية، ليصبح واحدا من أشرس الطغاة الذين عرفتهم القارة الأفريقية.

فقد أطلق رجال جهاز استخباراته السياسية لترويع كل المعارضين له وملاحقتهم وقتلهم وتعذيبهم بطرق وحشية، كما أصدر قرارا يقضي بإعدام كل أسرى الحرب الأهلية، ولم تنج من عقوباته القاسية لا القبائل ولا الإثنيات ولا الأقليات المسيحية ولا غيرها.

حسين حبري يمضي طفولته بين الرعاة البدو. ويعمل ساعيا للبريد في سنوات شبابه قبل أن يحصل على منحة إلى باريس لدراسة العلوم السياسية. وخلال سنوات الدراسة يفتن بكتابات فرانز فانون، ورايمون أرون، وبشخصية تشي غيفارا، ليعود إلى بلاده مطلع السبعينات من القرن الماضي لجمع الأنصار في تسيبي

وكان من الطبيعي أن تتم الإيقافات من دون إثبات للتهمة، وكان من الطبيعي أيضا أن يعدم المئات من دون محاكمة. وما إن يشاع أن هناك حركة تمردية ظهرت في هذه المنطقة أو تلك من البلاد إلاّ ويتحرك رجال الطاغية لضرب الجميع، وبقسوة شديدة من دون أن يستثنوا لا الأطفال ولا النساء ولا الشيوخ.

مع ذلك غضت كل من واشنطن وباريس الطرف عن الجرائم الفظيعة التي كان يرتكبها نظام حسين حبري. فهو الحليف الذي يناصرهما في حربهما المعلنة ضد القذافي، وضد المعسكر الشيوعي بقيادة ما كان يسمى آنذاك بالاتحاد السوفياتي. وكانتا تسارعان بتقديم المساعدات العسكرية كلما طلب هو ذلك. بل إن واشنطن لم تتردد في تدريب رجال استخباراته السياسية، ومدهم بما يحتاجونه لترويع المعارضين وتعذيبهم تماما مثلما فعلت مع العديد من الأنظمة العسكرية في أميركا الجنوبية، وكما فعلت مع نظام الجنرال موبوتو في الكونغو.

غير أن التحالفات السياسية، مثل الرمال المتحركة، سرعان مما تتغير لتتشكل من جديد بحسب ما تمليه المصالح الآنية وبعيدة المدى. ففي نهاية الثمانينات من القرن الماضي، انهار جدار برلين، وانهارت الأنظمة الشيوعية بما في ذلك الاتحاد السوفياتي.

وأمام ظهور منظمات حقوق الإنسان التي شرعت في ملاحقة الطغاة في جميع أنحاء العالم، تخلّت كل من باريس وواشنطن عن حليفهما السابق حسين حبري، وتركتاه وحيدا أمام عواصف الزمن الجديد.

وفي فاتح شهر ديسمبر 1990، اضطر حسين حبري إلى الهروب من بلاده التي حكمها بالحديد والنار ليستلم السلطة إدريس دبي الذي كان مستشارا عسكريا له. وفي داكار التي لجأ اليها ومعه ثروة طائلة نهبها من خزينة الدولة، عاش حياة مترفة مقدما الصدقات السخية للفقراء، ومبديا حرصا كبيرا على أداء واجباته الدينية، وظل على هذه الحال إلى أن جاء القرار بمحاكمته على الجرائم التي ارتكبها أثناء توليه الحكم.

12