حسان بورقية فنان مغربي تقيم رعشته تحت الجلد

الفنان المغربي يتخذ معنى مضادا للحرفة حين يعري السطوح من صمتها، وينقب فيها بحثا عن كل ما هو سري وغامض وملغز.
الأحد 2019/03/17
بورقية رسام الأشياء المنسية التي تسعدنا

لسنوات طويلة بقي رساما مؤجلا. ليس لأنه رجل أغوته الكتابة حسب، بل وأيضا لأنه كان يبحث في الرسم عن حلول لمشكلات جمالية، لا يكفي من أجل العثور عليها أن يرسم المرء مثل الآخرين.

كان الرسم بالنسبة إليه بمثابة طواف حول أثر يأبى أن يستعيد شكل الشيء أو الكائن الذي صنعه. أثر يشبه المعصية التي تصر على الذهاب إلى أقصى ما تملك من اختلاف.

يمحو الشيء ليراه في أثره

المحو هو ما دفع المغربي حسان بورقية إلى التمرد على الشكل. فإن كان لا يمحو الأشكال فإنه يهبها مصيرا مختلفا، مصيرا لا يذكر بما كانت عليه ولا يوحي باستقرارها بقدر ما يمنحها خفة، هي ليست من طبيعتها.

كل شكل من أشكاله هو عبارة عن شذرة. وهو ما تعلمه من معلمه الكبير “نيتشه”. فالشذرة ليست خلاصة بل هي كيان قائم بذاته.

كل شكل من أشكال بورقية هو عبارة عن شذرة
كل شكل من أشكال بورقية هو عبارة عن شذرة

بورقية لا يمحو أشكاله تماما، غير أنه يصنع منها أثرا يسبقها إلى مصيرها ويعرّف بها كونها مادة هلامية لا تُمسّ ويمكن اختراقها وصولا إلى جوهرها. تلك لعبة يجيدها رجل الرسم والكتابة حين يقفز بخفة بين المادي والروحي، بين الوهمي من الكثافة والحقيقي الذي يكاد يذوب.

حرفة بورقية تتخذ معنى مضادا للحرفة حين تعرّي السطوح من صمتها وتنقّب فيها بحثاً عن كل ما هو سري وغامض وملغز كما لو أن السطح في كل لحظة من لحظات تحوله ينتحل نبرة تنتسب إلى سطح يتستر عليه.

ما هو مرسوم يظل دفينا كما الكتابات التي مرّت عليها العاصفة فمحت أجزاء منها. تلك الأجزاء التي تظل عامرة بالخيال العالق بزمنها.

رسام يمحو ليس من أجل مديح النسيان بل ليفتش في رماد ما نتذكره عن الأحجار الكريمة التي تدمع لمرآها عيوننا.

الكاتب والرسام في السباق

تحارب رسومه الشيء بذاكرته المختطفة.تلك رسوم تمجد الشيء المهمل وتنسف صفاته العادية لتزجّ به في معادلة جمال حي، يقيم في مستقبل ذلك الشيء.

ولد بورقية في بني ملال بالمغرب عام 1956. درس الأدب في جامعة فاس. أقام أول معارضه عام 1976 فيما كان طالبا. في سن مبكرة اهتم بالفلسفة وترجم إلى العربية خمسة من أهم كتب الألماني نيتشه، إضافة إلى واحد من كتب بول ريكور. وبالرغم من تفرغه للرسم فإنه لم يتوقف عن الترجمة. صدر له مؤخرا كتاب عن جياكومتي لمناسبة إقامة معرض شامل لأعمال الفنان السويسري في الرباط. ذلك الكتاب هو عبارة عن مجموعة من المقالات كتبها خبراء عرفوا النحات عن قرب. كما سيصدر له كتاب مهم بعنوان “الانطباعية والانطباعيون”. وكانت قد صدرت له قبل عقود مجموعة قصصية واحدة. في المجال العملي فإن الرسام الذي يقيم في مراكش يعمل في مجال تصميم الأغلفة وقد حصل على جائزة الأطلس الكبير عن ترجمته رواية “عودة أبو الحكي” عام 2004. 

الفنان حسان بورقية لا يمحو الأشكال بل يهبها مصيرا مختلفا
الفنان حسان بورقية لا يمحو الأشكال بل يهبها مصيرا مختلفا

الكتابة والرسم بالنسبة إلى بورقية يكمّل أحدهما الآخر ويذكّر به ويسعى إلى أن يسبقه إلى الهدف. رسام المنمنمات الغامضة التي تكاد لا تُرى يرسم مثلما يكتب. وهو يكتب بأصابع الرسام في المقابل. ذلك ما يدفع به إلى ممارسة عمله بقلق فائض عن حاجته فيما لو كان ذلك الهدف واضحا. ما يسلّيه فعلا أنه لا يفارق شخصيته في الحالين. فهو نمط نادر من نوعه في حياتنا الثقافية. ذلك في الوقت الذي يبدو فيه عارفا بكل ما يفعل فإن أسئلته الوجودية تشعره بالحاجة إلى أن يعرف المزيد. لذلك فإنه في كل ما يفعل إنما يبحث عن ذلك الشيء الذي ينقصه. وهو شيء يظل مجهولا إلى أن ينتهي العمل فيلقي بورقيه فرشاته أو يكف عن الكتابة متأملا بعمق ما انتهى إليه.

يباشر بورقية الرسم كما لو أنه لم يرسم من قبل. شعور عميق بالطاعة يحرّره من خبراته السابقة التي يسترجعها أثناء الرسم تدريجيا ليفتن بما يفعله. إنه رسام يفاجئ نفسه دائما.        

كيف يمكن للجمال أن ينبعث من الرماد؟ تلك هي أطروحته التي ما فتئ ينقّب بين سطورها مثل الباحثين عن الذهب. ومن أجل الإلمام بما ينطوي عليه غموضها من مفاجآت صار يلتقط الأشياء الصغيرة المهملة ليعيدها إلى منطقة نقاء، كانت قد غادرتها يوم خضعت لقهر الاستعمال اليومي.

يقول “الرغبة في استبقاء العابر والهشّ الذي لا يمكن محوه حتى عندما تتساقط جدرانه ويرحل أهله ولا تبقى منه غير بصمة يد أو قدم أو عرق جسد. هنا تصبح اللوحة أثرا حيّا عندما يكون الحب بحاجة إلى منفى”.

شيء من الترجمة علق بطريقة تفكير بورقية في الرسم. ترجمة العالم وترجمة مرآته هما في الوقت نفسه إنما يمثلان محاولة للعودة إلى النص الأصلي. الرسام هنا يرى الأشياء في تحولاتها التي تذهب بها إلى الهامش، هناك حيث يأخذ التأمل صيغة استفهامية. الرسم وهو مرآة في كل أحواله يشكل نوعا من الإصغاء لما لا يمكن أن يفنى وهو الجمال. وفي ذلك يقترب بورقيه من كبار الشعراء الذين أحبهم “بورخيس وهولدرن وبيسوا”.

في رسومه يلتقي الرماد بالصدأ ليشكلا عالما يقف إلى جوار العالم الذي ألهمه القبول بالنفي، وهو عالمنا المجاني. تلك رسوم لا تكف عن مديح اليد ولا تكترث بالعين. إنها تمجد لحظة الزوال. وبهذا المعنى يقترب بورقيه من واحد من أهم ملهميه، أقصد العراقي شاكر حسن آل سعيد.

كل لوحة من لوحات بوريقة هي قصيدة شعر مرئية
كل لوحة من لوحات بوريقة هي قصيدة شعر مرئية

هو وأنا نقيم حوارا

“حدائق معلقة” عنوان معرضه الذي أقامه في الدوحة عام 2013 مستلهما أشعار الأرجنتيني بورخيس. وحين يتعلق الأمر بالشعر فإن الرسام لا يُخفي مرجعيته. يفتنه أن ينتمي إلى حشد الشعراء ليضيع
بينهم. فهو لا يرسم كلماتهم ولا يقتفي أثر المعاني التي تحفل بها أشعارهم. إنه يمارس نوعا من التلصص على عاداتهم الجمالية. كل لوحة من لوحاته هي قصيدة شعر مرئية.

كان من الممكن أن يكون شاعرا، غير أنه يعرف أنه لو كتب الشعر لما كتب جملا طويلة ولكان شعره أقرب إلى الـ”هايكو”. تأملات بصرية في معنى أن يكون المرء شاهدا على تحولات العالم عبر الزمن. سيكون كل شيء مؤجلا في انتظار أن لا تغادر القصيدة بياضها.

أجرى بورقية ذات مرة حوارا مع نفسه بعنوان “هو وأنا”. وإذا كانت الـ”أنا” معلومة فإن الـ”هو” لا يمكن تعريفه، لأنه يظل هاربا ومشردا ومنفيا ومفعما بنشوة لا يمكن تفكيك عناصرها.

ذلك الـ”هو” قرينه الذي يرسم. الكائن المكلّف بحمل وصيّته إلى عالم الغيب الذي أتى منه. وهو يشبه إلى حد كبير ما يفعله. فرسوم بورقية التي تأتي من جهة مجهولة تعود بنا إلى تلك الجهة في نهاية تأملها لتضفي على العلاقة بها نوعا من الاحتفاء البليغ بالروح. روح الشيء التي لم تغادره بالرغم من عزله وإهماله وانتفاء الحاجة إليه.

بورقية يحتفي بالحياة من غير ضجيج. يجري نشيده تحت السطح المرئي مثلما يفعل الـ”هو” لدى المتصوّفة في إشارة إلى قوة الخلق. “هناك ما يبقى” لن يقول تلك الجملة لكي لا يكملها بكلمات هولدرن “يؤسسه الشعراء”. فالرسامون هم أيضا يؤسسون لمعنى جديد للبقاء يقع خارج طبقات الكتابة والكلام. إنه المعنى البصري المضاد لما تألف العيون النظر إليه. لا يبني بورقية صرحا للجمال بل يتسلل به إلى مناطق حساسة تقع تحت بشرتنا ليشعرنا باللذة.

Thumbnail
9