حساسيات طائفية تغذي التوترات في سوريا

شكلت الاشتباكات الدامية التي عاشتها مدينة جرمانا في محافظة دمشق، مؤشرا على مدى هشاشة الوضع الأمني في سوريا، ومواجهة السلطة الجديدة صعوبات في فرض الاستقرار وضبط المجموعات المسلحة المحسوبة عليها.
دمشق- عكست المواجهات التي جدت في مدينة جرمانا ذات الغالبية الدرزية قرب دمشق، الحساسيات الطائفية في سوريا، والتي لم تكن ملحوظة قبل أزمة 2011، لكنها طفت على السطح مع اندلاعها، وبلغت منحى أخطر بعد الإطاحة بالرئيس بشار الأسد في ديسمبر الماضي، وصعود الإسلاميين إلى سدة الحكم في دمشق.
ولقي 14 شخصا على الأقل مصرعهم بينهم سبعة مسلحين محليين دروز، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، في الاشتباكات التي حصلت ليل الإثنين-الثلاثاء، فيما حمّلت المرجعية الدينية في المدينة السلطات “المسؤولية الكاملة” عنها.

الشيخ حكمت الهجري: سوريا لا تزال تحت وطأة فكر اللون الواحد
وأتى هذا التوتر بعد أكثر من شهر على أعمال عنف دامية في منطقة الساحل السوري قتل خلالها نحو 1700 شخص غالبيتهم العظمى من العلويين، لتسلط الضوء على التحديات التي تواجهها السلطات الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، في سعيها لتثبيت حكمها ورسم أطر العلاقة مع مختلف المكونات السورية.
ومن شأن ما حصل في جرمانا، أن يعمق فجوة الثقة بين السلطة السورية والأقليات في سوريا، ويعطي انطباعا بعجز الأخيرة عن ضبط المجموعات المسلحة التابعة لها.
ووقعت اشتباكات جرمانا عقب انتشار تسجيل صوتي نسب إلى شخص درزي يتضمن إساءات إلى النبي محمد، أثار غضب مسلحين سنة.
وأفاد سكان بسماع أصوات إطلاق رصاص وقذائف خلال الليل، مؤكدين تراجع حدة المعارك صباحا، وفتح بعض المحال والأفران أبوابها، لكن الحركة بقيت خفيفة في الشوارع.
وشوهد الثلاثاء انتشار كثيف لمسلحين محليين عند مداخل جرمانا، بينما انتشر أفراد تابعون لوزارتي الداخلية والدفاع على أطرافها في عربات مدرعة وأخرى مزودة برشاشات ثقيلة. كذلك، حلّقت في الأجواء مسيّرات تابعة لوزارة الدفاع.
وأكدت وزارة الداخلية الثلاثاء أنها فرضت “طوقا أمنيا” حول المدينة.
وقالت في بيان إن جرمانا شهدت “اشتباكات متقطعة بين مجموعات لمسلحين، بعضهم من خارج المنطقة وبعضهم الآخر من داخلها،” أسفرت عن “قتلى وجرحى، من بينهم عناصر من قوى الأمن المنتشرة في المنطقة.”
وتعهدت بـ”ملاحقة المتورطين ومحاسبتهم وفق القانون… وحماية الأهالي والحفاظ على السلم المجتمعي،” مضيفة أن “التحقيقات لكشف هوية صاحب المقطع الصوتي المسيء لنبينا محمد” متواصلة.
وكان المرصد السوري تحدث عن اندلاع اشتباكات في جرمانا “بعد اقتحام عناصر أمن ومسلحين تابعين لها أحياء في المدينة، على خلفية توتر سببه انتشار تسجيل صوتي منسوب لمواطن درزي، يتضمن إساءات ذات طابع ديني.”
وأشار إلى مقتل ستة مسلحين دروز وثلاثة من المهاجِمين في المعارك.
وبعد ظهر الثلاثاء، شيّعت قوات الأمن إثنين من زملائهم قضيا في المواجهات. وجاب المشيّعون أحد شوارع العاصمة على متن سيارات ودراجات نارية، وأطلقوا النار في الهواء من بندقيات رشاشة.
وأفاد سكان عبر الهاتف، بأن الحركة كانت شبه معدومة في جرمانا الثلاثاء. وقال شاهد تحفظ عن ذكر اسمه خشية على سلامته، إن الاشتباكات اندلعت خلال الليل، تبعها إطلاق رصاص وقذائف بشكل متقطع.
وقال “حوصرنا في منازلنا مع استمرار سماع رشقات متقطعة.. خلت الشوارع في حيّنا صباحا (الثلاثاء) من أي حركة.”
وصرح أحد المسلحين المحليين المنتشرين قدّم نفسه باسم جمال، أنهم طلبوا من الناس ملازمة المنازل “حرصاً على حياتهم.” وأضاف “لم تشهد جرمانا يوما كهذا منذ سنوات طويلة، المدينة عادة مزدحمة وحيوية ولا تنام لكنها اليوم مدينة ميتة والجميع في بيته.”
وأكدت رهام وقاف (33 عاما) أنها لزمت المنزل مع زوجها وأولادهما.
وقالت وقاف الموظفة في منظمة إنسانية “أخاف أن تتحول مدينة جرمانا إلى ساحة حرب أو أن نعلق هنا”، مضيفة “أنا خائفة من توتر الوضع أكثر، كان يتوجب أن نأخذ أمي اليوم إلى المشفى لأخذ جرعة دوائية، لكن لم نتمكن من ذلك”.
ونددت المرجعية الدينية الدرزية في جرمانا بـ”هجوم غير مبرر”.
وشددت الهيئة الروحية لطائفة المسلمين الموحدين الدروز في جرمانا في بيان على أن “حماية أرواح المواطنين وكرامتهم وممتلكاتهم هي من أبسط مسؤوليات الدولة والأجهزة الأمنية،” محمّلة “السلطات المسؤولية الكاملة عما حدث، وعن أي تطورات لاحقة أو تفاقمٍ للأزمة.”
وفي بيان حمل توقيع شيخ العقل يوسف جربوع وشيخ العقل حمود الحناوي، اعتبرت مشيخة عقل الموحدين الدروز في سوريا أن “وطننا يتعرض لفتنة كبرى.”
ونددت بـ”أصوات النشاز التي ظهرت للمساس بالرسول الأكرم”، معتبرة أنها “مأجورة من أعداء الوطن والدين بغية التقسيم والتجزئة والتشرذم وتفكيك البنية الوطنية السورية الواحدة.”
من جهته، دان الشيخ حكمت الهجري، أحد أبرز الزعماء الروحيين للدروز في سوريا، “الاعتداءات الإرهابية المقيتة على الأبرياء الآمنين.”
◄ من شأن ما حصل في جرمانا، أن يعمق فجوة الثقة بين السلطة السورية والأقليات في سوريا، ويعطي انطباعا بعجز الأخيرة عن ضبط المجموعات المسلحة التابعة لها
واعتبر أن سوريا لا تزال “تحت وطأة فكر اللون الواحد والإقصاء أو الفرض وعدم الاستماع… كما كان النظام البائد الذي لا تزال مفاسده مخيمة على الأداء الحالي، بل وأكثر عمقا وفتنة في الوضع الراهن لما تأخذه من عناوين طائفية ممنهجة.”
وتقطن ضاحية جرمانا الواقعة جنوب شرق دمشق، غالبية من الدروز والمسيحيين، وعائلات نزحت خلال سنوات النزاع الذي اندلع في سوريا عام 2011.
وسبق للمنطقة أن شهدت توترات عقب إطاحة الأسد في الثامن من ديسمبر على يد تحالف فصائل مسلحة تقوده هيئة تحرير الشام بزعامة الشرع الذي كان يعرف حينها باسمه الحركي أبومحمد الجولاني. وانتشر أفراد من الأمن، تابعون للسلطات الجديدة مطلع مارس في جرمانا عقب اشتباكات مع مسلحين من الدروز.
وإثر تلك المعارك، هددت إسرائيل بالتدخل لحماية الأقلية. وقال وزير دفاعها يسرائيل كاتس حينها “أصدرنا أوامرنا للجيش بالاستعداد وإرسال تحذير صارم وواضح: إذا أقدم النظام على المساس بالدروز فإننا سنؤذيه.”
ويقيم نحو 150 ألف درزي في إسرائيل، تحمل غالبيتهم الجنسية الإسرائيلية، بينما يقيم 23 ألف درزي في الجزء الذي تحتله إسرائيل من هضبة الجولان. وتتمسك غالبيتهم بالهوية السورية.
ومنذ وصول السلطة الجديدة إلى دمشق بعد الإطاحة بحكم الأسد، تسجّل اشتباكات وحوادث إطلاق نار في عدد من المناطق. ويتحدث سكان ومنظمات حقوقية عن انتهاكات واعتقالات ذات خلفيات طائفية.