حرية التعبير في تونس وخيار السير على الحواف

الحرية والمسؤولية خطان متوازيان يجب ألاّ يتقاطعا إلا حول مصلحة تونس وصورتها أولا وأخيرا وبخلاف ذلك تتحول الحرية إلى أداة ممانعة وفعل يروم التقزيم لا الإصلاح والرفع من شأن الدولة.
الأربعاء 2024/05/22
أن تكون حرّا يعني أن تكون مسؤولا

حين ارتفعت أصوات التونسيين شتاء 2011 رددوا كلمات ثلاث موزونة ومختارة بدقة وارتداداتها عميقة في النفوس لا تزال تختزلها المخيّلة ولا تفارقها: “شغل، حرية، كرامة وطنية”. التونسيون بمختلف أعمارهم ومستوياتهم وليس فقط خريجو الجامعات وأصحاب الشهادات العليا والعاطلين عن العمل، رددوا تلك الكلمات الثلاث وكتبوها وحملوها على صدورهم وواجهوا بها قوات الأمن في شارع الحبيب بورقيبة وبمختلف محافظات البلاد.

صورة الرجل الذي جثم على ركبتيه يتصدّر جمهورا غفيرا من المتظاهرين حاملا قطعة من الخبز (تسمّى باقات في تونس) في إشارة رمزية إلى أهمية الحدث الثوري ودلالاته التي لا يغيب عنها دفاع الناس عن أبسط حقوقهم في “اللقمة” مثلما يردد أغلب التونسيين، أي لقمة العيش، لا تفارق مخيلتي.

أيضا الفيديو الذي شاهده العالم لمحام عرّض نفسه للخطر ولم يبال بحظر التجوال المفروض في شارع بورقيبة ليهتف بكلمات موزونة ومزلزلة ارتعشت لها كل الأجساد وأبكت من يستمعون إليها على الشرفات: “بن علي هرب.. المجد للشهداء.. الحرية للتوانسة.. يا توانسة يلي جوعوكم يا توانسة يلي.. ويلي.. ويلي..”.

نال التونسيون حريتهم ورحل زين العابدين بن علي عن دنيانا وعاد “زعماء الخارج” إلى أرض الوطن وبدأت معركة شرسة على “خلافة” الكرسي..

◄ صورة البلاد وحدهم التونسيون من يقدمها للخارج، سواء بالسلب أو الإيجاب، وبحسن استغلال الموجود والبناء عليه لا بترذيله كونه لا يتماشى مع مبادئ هذا وطموحات ذاك

المعارك على اختلاف مسمياتها لم تتوقف. هذا يتبع فلانا وذلك يتبع علانا، هذه مسمّاة على الحزب الفلاني وتلك تنتمي إلى قاعدة الحزب كذا. هذا إسلامي وذلك تجمعي (نسبة إلى حزب التجمع الدستوري المنحل) وهذه يسارية وهذا جمهوري وتلك جبهاوية وغيرها من مختلف الانتماءات الحزبية التي فاق عددها المئتي حزب.

ماذا حصل بعد ذلك؟

المسار الثوري الذي أخذ أبعادا شتى تشتت خلاله الآراء والأفكار التي تبارك هذا الرأي وتمجده وأخرى تدحضه لأنه لا يمثلها أو لا يتماشى مع أفكارها ورؤيتها. الكل أصبح حرّا يقول ما يشاء ويعبّر عمّا يشاء بتلقائية لا رقيب فيها ولا حسيب. لم يراع أحد حرمة الدولة ولم يعمل حسابا لا لتاريخها ولا لماضيها ولا أيضا لحاضرها وهو الأهم. بمفهوم أدق بات الكل يدلي بدلوه في هكذا أمور تمس الدولة وهيبتها والأهم صورتها عند الرأي العام الخارجي. تراجعت صورة تونس في الخارج وسئم التونسيون تلك المرحلة التي عاشتها البلاد زمن حكم الإسلاميين ما بين 2012 إلى حدود 2015.

فترة كتابة الدستور التي لم تعش تونس مثيلا لها، شاهد التونسيون أثناءها معركة أو معارك لا تنتهي داخل البرلمان، سباب وشتم وتراشق بالعبارات وتخوين وصل إلى تبادل اللكمات، وكل ذلك تحت يافطة الحرية غير المسؤولة.

أزهقت أرواح وعاش التونسيون مرحلة صعبة بسبب التصفية لرمزين من أهم رموز البلاد هما المحامي شكري بلعيد والسياسي محمد البراهمي اللذان يرجّح الكثير من الخبراء أن اغتيالهما تقف وراءه قوة الرسائل التي كانا يوجهانها والتحليل الموزون الذي كانا يقدمانه في المنابر الإعلامية وفي الشارع زمن الحراك الثوري، بمعنى أدق حرية الكلمة ومنطوق اللسان هما ما تسببا في أذيتهما.

حرّي التذكير بكل ذلك اليوم للوقوف على ما اعتبره البعض مكسبا جاء به الحراك الثوري في 2011، لكن أن يتحول هذا المكسب من نعمة إلى نقمة، فذلك لا يعني سوى تعبير واحد “الحرية مكسب لكن في حدود”.

التيار لم يتوقف عند حدود البرلمان وشطحاته التي انتهت بحله بقرار رئاسي صادر عن الرئيس التونسي قيس سعيد، ونُفذ يوم 25 يوليو 2021، لا بل إنه مسّ جميع القطاعات تقريبا دون استثناء وخصوصا القطاع الإعلامي بشقيه المسموع والمرئي.

◄ نال التونسيون حريتهم ورحل زين العابدين بن علي عن دنيانا وعاد "زعماء الخارج" إلى أرض الوطن وبدأت معركة شرسة على "خلافة" الكرسي

الإعلام هو انعكاس لصورة أيّ بلد في الداخل كما الخارج وجب ترتيبه وضبطه ومنحه الإشعاع الذي يستحق ليكون قادرا على الترويج والجذب.. هكذا ترتب الدول إستراتيجياتها وأولوياتها في عالم يقوم على الاستقطاب وتبرز فيه تقنيات العالم الافتراضي أكثر جماهيرية وصخبا سواء على منصات التواصل الاجتماعي أو عبر الفضائيات المفتوحة (برامج تلفزيونية، محطات إذاعية وغيرها).

من المهم أن تواكب تونس هذا التطور وأن تبادر إلى ضبط المحتوى الإعلامي وأن تعالج مكامن الخلل وتعدّل الأوتار. من المهم أيضا أن يعترف كل واحد بما له وما عليه. الحراك الثوري انتهى وزمن الانفلات الإعلامي انتهى أيضا ومكسب حرية التعبير لا أحد ينكره. لكن أيضا من المفيد أن يركز الجميع على الاشتغال لمصلحة البلاد بعيدا عن منطق التخوين والمغالطات التي أوصلت تونس إلى عجز اقتصادي ومالي وفاقة اجتماعية وخسائر كبيرة لا تزال تعاني تبعاتها إلى اليوم.

صورة البلاد وحدهم التونسيون من يقدمها للخارج، سواء بالسلب أو الإيجاب، وبحسن استغلال الموجود والبناء عليه لا بترذيله كونه لا يتماشى مع مبادئ هذا وطموحات ذاك. مناخ الحريات المنفلت الذي ساد البلاد وتحوّل إلى نقمة على الدولة وأجهزتها وكيفية اشتغالها ولا أحد ينكر تبعاته السلبية وتأثيره على الاستثمار وصورة تونس في الخارج، آن الأوان لتهيئته وضبطه ليكون مواكبا لنهج الانفتاح الدبلوماسي الذي أصبحت تونس تسير عليه.

الحرية والمسؤولية خطان متوازيان لا يجب أن يتقاطعا إلا حول مصلحة تونس وصورتها أولا وأخيرا، وبخلاف ذلك تتحول الحرية إلى أداة ممانعة وفعل يروم التقزيم لا الإصلاح والرفع من شأن الدولة ومصلحتها والأهم صورتها بين الأمم. أن تكون حرّا يعني أن تكون مسؤولا عن أفكارك واختياراتك والأهم عن آرائك وما ينطق به لسانك، أي أنك اخترت السير على الحواف..

9