حرف الهجاء الخامس عشر

العمل من أجل توزيع أفضل للقاحات في العالم العربي وأفريقيا سيبقى الحل الأمثل صحيا وسياسيا وأخلاقيا حتى قبل أن تستنفد منظمة الصحة العالمية كل حروف الهجاء الإغريقية الأربعة والعشرين.
السبت 2021/12/18
الأزمة الصحية مرآة صادقة عكست الواقع الحقيقي للعلاقات الإقليمية والعالمية

مهما تظلمت البشرية من الأذى الذي ألحقه انتشار فايروس كورونا باقتصاديات العالم ومجتمعاته فإنها لن تستطيع إنكار فضل الجائحة على الأقل في بعض الأوجه.

فقد كانت الأزمة الصحية العالمية، رغم تبعاتها الإنسانية المأساوية، مرآة صادقة عكست الواقع الحقيقي للعلاقات الإقليمية والعالمية لمن كانت لهم أوهام بأن هناك شيئا غير المصلحة يحكم هذه العلاقات.

الحقائق التي كشفتها جائحة كورونا ستكون مفيدة في المستقبل خاصة وأن ملامح موجات وبائية قادمة وسباقات جديدة نحو تطوير أجيال متطورة من اللقاحات بدأت تلوح في الأفق.

أظهرت التجربة السابقة أن وعود الحكومات والمنظمات الدولية بتقديم يد المساعدة لمن يستحقها في مواجهة الجائحة لن تتجسم على أرض الواقع قبل أن تحقق أوروبا والولايات المتحدة وبقية الدول المصنعة اكتفاءها الذاتي وأكثر من الأمصال. المفروض أن تكون مواقف البلدان المتطورة خلال العامين الماضيين قد أسدلت الستار على مسرحيات البراءة والسذاجة في العلاقة بين الدول.

◄ من الواضح أن معظم البلدان العربية لم تحقق مستويات للتلقيح مماثلة للنسب المسجلة في الدول ذات القدرات العالية في هذا المجال مثل دول الخليج أو المغرب

 البعض من دول المنطقة سوف تمتحن في الفترة القادمة طموحاتها (وصلابة شراكاتها الأجنبية) مع بعض القوى العظمى نحو إرساء أسس صناعة صيدلية تؤمن إنتاج اللقاحات وتطويرها لمواكبة تطور المتحورات القادمة.

والمفروض أيضا أن تكون بلدان المنطقة العربية ذات الإمكانيات المحدودة تعلمت من السنتين الماضيتين ألاّ تعول على المنظمات والهياكل الرسمية العربية التي لم يكن لها أثر يذكر في مواجهة الموجات الأولى للجائحة. كانت هذه المنظمات مشغولة عن الجائحة بالسياسة كما تراها. وكأنما إنقاذ الأرواح ترف لا يرتقي إلى مستوى هذه السياسة.

اكتسبت معظم البلدان في المنطقة واقعية جديدة تجعلها تتوقع التعاون مع بلدان بعينها تبعا لمصالحها الثنائية معها دون أي اعتبارات أخرى. ويصعب أن يلومها أحد على ذلك. ففي الحريق لا يعلو إلا صوت الإطفائي.

تعلمت هذه البلدان أن الآليات متعددة الأطراف تصلح فقط لإصدار البيانات غير المعدة للتنفيذ، حول السلام في الشرق الأوسط. 

كما تعلمت بلدان المنطقة من الكوارث السابقة أن التعاون على مواجهة الأزمات الصحية والإنسانية هو جوهر السياسات الفعلية حتى وإن كانت غير معلنة. تعلمت أن القدرة على تقديم الدعم عندما تدلهمّ سحب الأزمات الصحية هي جوهر القوة الناعمة والمصلحة الاقتصادية بين البلدان.  

وتجد المنطقة العربية اليوم نفسها جزءا من سباق بين روسيا والصين نحو توسيع رقعة تأثيرها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سواء بتوفير شحنات الأمصال أو بمنح التراخيص لبلدان المنطقة من أجل تصنيع اللقاحات. باستثناءات نادرة، لا تزال الشركات الكبرى في الغرب مترددة على منافسة الروس والصينيين في هذا المجال.

بعض البلدان العربية، على غرار مصر والمغرب والإمارات، تعلمت الدرس باكرا وسعت من خلال الشراكات الدولية في مجال تصنيع اللقاحات لتحقيق اكتفائها الذاتي وكذلك لتوسيع رقعة وجودها ومصالحها في أفريقيا. 

تعلمت معظم الدول العربية، إلا المستغرقة في حروبها الأهلية (الساخنة والباردة)، أن جائحة كورونا أضحت أحد محاور العمل الدبلوماسي الرئيسية.

كل من يحاول الفصل بين الدبلوماسية الصحية وتوازن القوى في العالم فهو واهم. حتى في تسمية المتحور الجديد لم تكن الاعتبارات السياسية غائبة.

اعتمدت المجموعة الدولية نظام حروف الهجاء اليونانية في تسمية المتحورات لاجتناب مطبات الوسم العرقي أو القومي الذي قد يتمخض عن نسبة الفايروس وتفرعاته إلى مناطق محددة من العالم دون غيرها.

لما عاد الفايروس من نافذة السلالة المتحولة “أوميكرون” اختارت منظمة الصحة العالمية الحرف الخامس عشر من حروف الهجاء اليوناني.

يقال إن منظمة الصحة العالمية اجتنبت الحرفين الثالث عشر والرابع عشر: nu “نيو” الذي يحيل إلى المفردة الإنجليزية التي تعني الجديد، وحرف xi الذي يحيل إلى اسم الرئيس الصيني شي جين بينغ كما يكتب بالحروف اللاتينية. مما كان سيعيدنا إلى أجواء الحرب الدعائية للرئيس السابق دونالد ترامب ضد الصين واتهاماته لها بأنها كانت مصدر الجائحة. وكان اعتماد منظمة الصحة العالمية لحروف الهجاء الإغريقية لتسمية المتحورات يهدف إلى اجتناب ربط هذه المتحورات بأي بلدان حتى وإن كانت هي مكان اكتشاف أول حالة معروفة منها.    

خطوة معقولة خاصة وأن وصف هذه المتحورة بالجنوب أفريقية كان سيضيف عقوبة إضافية لبلدان جنوب القارة الأفريقية بعد أن قاطعتها بسرعة قياسية معظم شركات الطيران في العالم رغم أنه اتضح لاحقا أن حالات أخرى من المتحورة أوميكرون كانت سجلت في بلدان أوروبية قبل حصولها في جنوب القارة الأفريقية وأن جنوب أفريقيا كان لها الفضل في الكشف السريع عن المتحورة.

لبلدان جنوب القارة الأفريقية الحق أن تحتج على الإجراءات المتسرعة المتخذة ضدها بعد أن بقيت في ذيل قائمة الدول الحاصلة على اللقاحات. إذ تقل نسبة الملقحين في القارة السوداء عن 8 في المئة مقابل نسب تقارب 70 في المئة في أوروبا وأميركا. 

لا يمكن للمنطقة العربية أن تتوهم أن وضعها أفضل كثيرا من وضع القارة الأفريقية. وهذا درس آخر تقدمه الجائحة، خاصة وإن كانت البلدان العربية لم تعبر إلى حد الآن عن تضامن فعال مع أفريقيا في سعيها للتصدي للحيف الصحي الذي تواجهه. ولعل مثل هذا التضامن يمر حتما عبر الوعي بتشابه التحديات التي تواجهها المنطقتان.

حسب منظمة الصحة العالمية ما زالت هناك سبع دول شرقي المتوسط لم تبلغ نسبة تلقيح المواطنين فيها 10 في المئة.

◄ الحقائق التي كشفتها جائحة كورونا ستكون مفيدة في المستقبل خاصة وأن ملامح موجات وبائية قادمة وسباقات جديدة نحو تطوير أجيال متطورة من اللقاحات بدأت تلوح في الأفق

تقول الأرقام (على أساس من تلقوا على الأقل جرعة واحدة من الأمصال) إن نسبة التلقيح في اليمن والسودان وسوريا تتراوح بين 1 و4 في المئة. وهي تقل عن 20 في المئة في العراق والجزائر ولا تتجاوزها بكثير في مصر وليبيا إن هي بلغتها.

من الواضح أن معظم البلدان العربية لم تحقق مستويات للتلقيح مماثلة للنسب المسجلة في الدول ذات القدرات العالية في هذا المجال مثل دول الخليج أو المغرب. 

الفروق في نسب التلقيح تعني أن هناك بلدانا عديدة في المنطقتين العربية والأفريقية لا تزال مرشحة ليس فقط للإصابات والخسائر في الأرواح وإنما كي تكون أرضية خصبة لنشوء وتطور المتحورات.

ومن أضغاث الأحلام الاعتقاد بأن منع الرحلات الجوية عن المسافرين القادمين من بلدان دون غيرها سوف يكفي لوحده لدرء انتشار الجائحة ومتحوراتها.

وسيبقى العمل من أجل توزيع أفضل للقاحات في العالم العربي وأفريقيا هو الحل الأمثل صحيا وسياسيا وأخلاقيا حتى قبل أن تستنفد منظمة الصحة العالمية كل حروف الهجاء الإغريقية الأربعة والعشرين. 

 وستبقى قدرات دول المنطقة على التغلب على الجائحة تعبيرا يترجم بوضوح مدى الخطوات الاستباقية التي اتخذتها من أجل ضمان أمنها الصحي والعلمي وحماية اقتصادها وتعزيز دائرة  تأثيرها في المنطقة والعالم.

عدا ذلك من الكلام لن يساوي شيئا على أرض الواقع، وإن كان ربما يصلح لخطب الزعماء والقادة خلال الجلسة العامة القادمة للأمم المتحدة.

8