حرب غزة تُجبر المصريين على القبول بواقع معيشي ضاغط

القاهرة- انعكست الحرب الدائرة في قطاع غزة على المشهد السياسي الداخلي لبعض الدول العربية، وأصبح الكثير من المصريين مضطرين للتعايش مع الواقع المعيشي بالغ الصعوبة من دون احتجاج صامت أو تذمر ظاهر.
ويسيطر على شريحة من المصريين غضب مكتوم جراء الارتفاعات القياسية في أسعار بعض السلع، إثر وصول سعر الدولار الأميركي إلى مستوى غير مسبوق في السوق السوداء أو الموازية، ووصل إلى نحو 47 جنيها، بينما سعره في البنوك 30 جنيها.
ولا يلتزم المصريون الصمت عندما تنهار العملة المحلية في بلدهم إلى هذا الحد، لكنهم أصبحوا مدفوعين للتعامل بهدوء رغبة منهم في تمرير هذه المرحلة الحرجة بأقل خسائر أمنية وسياسية أمام تصاعد الحرب على حدود مصر الشرقية.
◙ من الخطأ استمرار صمت الحكومة على أزمات اقتصادية لمجرد أن البلاد تواجه تحديات مرتبطة بالحرب على قطاع غزة
ويستقبل المواطنون عادة ارتفاع سعر الدولار بغضب واسع، يدفع البعض من المسؤولين عن الملف الاقتصادي للخروج والدفاع وكشف خطة الحكومة لمواجهة تداعيات هذه المسألة، لكن جراء الحرب التزم الجميع بالصمت.
وعاودت الحكومة تخفيف أحمال الكهرباء بعد فترة طويلة من استقرار التيار الكهربائي، وبدلا من أن يكون انقطاع الكهرباء عن المنازل لمدة ساعة واحدة في اليوم وفقا لجدول كل منطقة سكانية، طالت فترات الانقطاع لأكثر من ساعتين بلا تفسير أو أفق لحل الأزمة.
وتعتقد دوائر سياسية أنه من الخطأ استمرار صمت الحكومة على أزمات اقتصادية لمجرد أن البلاد تواجه تحديات مرتبطة بالحرب على قطاع غزة، مقابل تجاهل الشارع الغاضب من إجراءات يجب أن تنهض الحكومة للحد من تفاقمها.
وترى هذه الدوائر أن الحنكة تفرض على الحكومة عدم اللعب على وتر صمت الشارع الذي يكظم غيظه مراعاة للظروف الأمنية الراهنة، والمفترض أن يكون المسؤولون على درجة عالية لمراعاة خطورة النتائج الناجمة عن الغليان الصامت.
وقال سعيد صادق أستاذ الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة إن هناك فارقا بين الصمت في الظروف العادية والتجاهل وقت التحديات الضخمة، وما يحدث في الوقت الراهن يعبر عن غياب الحنكة السياسية لدى الحكومة.
وأضاف لـ”العرب” أن أيّ حكومة تواجه مخاطر مفاجئة عليها الحرص على تماسك الجبهة الداخلية، وتلبية مطالب الناس كي يستمر اصطفافهم خلفها، لكن التبرير بوجود تحديات ولا وقت لمناقشة قضايا جانبية مغامرة سياسية.
وتعامل مواطنون مصريون مع أزمة محتدمة مثل انقطاع الكهرباء بسخرية، لأن الحكومة أنفقت المليارات من الدولارات لتطوير وإنشاء شبكات الكهرباء، ولديها فوائض للتصدير، ما كان يدفع بعض المسؤولين لتهدئة الناس بخطاب معتدل.
ومنذ أن تفاقمت أزمة الكهرباء وقت ذروة ارتفاع درجات الحرارة في الصيف لم يخرج مسؤول حكومي ليبرر ما حدث، أو يعد بحل المشكلة، ما جعل شريحة كبيرة من الناس تشعر بوجود ما يشبه “الابتزاز” لوطنيتهم في الفترة الراهنة.
وما يثير امتعاض محمد السيد، وهو معلم ورب أسرة، أن الحكومة تصر على توظيف الحرب على غزة باستثمار تجييش الرأي العام خلف القيادة السياسية لمواجهة المخاطر الأمنية، ولا تتدخل عمليا لحل مشكلات اجتماعية واقتصادية تتزايد بصورة واضحة.
وأوضح لـ”العرب” أن مشكلة مثل انقطاع الكهرباء عندما بدأت في فترة الصيف، ورأت الحكومة حجم الغضب في الشارع، تحركت وفسّرت لاحقا المشكلة بارتفاع الحرارة وكثرة الاستهلاك المحلي، بعدها تدخل الرئيس عبدالفتاح السيسي شخصيا لشرح أبعاد الأزمة وفهمها.
ولاحظ السيد عودة أزمة انقطاع التيار الكهربائي منذ بدء الحرب على غزة من دون توضيح حكومي، وكأن الأزمة غير موجودة، وهو الأمر ذاته مع انهيار الجنيه أمام الدولار، والارتفاعات القياسية في أسعار بعض السلع، معقبا “طُلب من الناس المزيد من الوعي والالتفاف حول الدولة، فلم يتأخر غالبية المواطنين، وقلنا إن الوطن أبقى، فهل يعاقبوننا على ذلك بدعوى أن الظروف لا تسمح لإظهار الغضب”.
وبينما ظلت شبكات التواصل الاجتماعي في مصر مقياسا لتوجهات الرأي العام وبإمكانها تحريك الحكومة تجاه قضية بعينها، بات الاهتمام الأكبر منصبا على متابعة ما يجري في غزة، وسط تدوينات يسجّلها مؤيدون للسلطة بأن إثارة أيّ أزمة في الوقت الحالي يرتقي إلى مرتبة “الخيانة”.
اقرأ أيضا:
ويرى مراقبون أن متابعة الحرب تُدار من خلال أجهزة أمنية موثوق بها، ولا دخل للحكومة أو أيّ وزارة خدمية أخرى بما يحدث مباشرة فيها، ولا توجد مبررات للتخاذل تجاه ملفات ترتبط باحتياجات الناس لتكريس وحدة الجبهة الداخلية.
ويصعب فصل بطء الحكومة في ترضية الشارع عن النهج الذي تتبعه في مثل هذه الظروف من خلال توظيف ما يوصف بـ”الإلهاء الشعبي” بقضية أو ملف بعينه للتمادي في الصمت أو تمرير قرارات تجلب للحكومة غضبا واسعا عليها دون أن تعي خطورة الانعكاسات السياسية السلبية لهذه الخطة.
وتخشى شريحة من المواطنين التعبير عن غضبها من الوضع الاقتصادي والاجتماعي لتصطدم بتهمة التخوين والعمل لصالح تيارات معادية، ما يفرض على الحكومة أن تعي مخاطر انعزالها عن هموم الشارع بذريعة مواجهة التحديات الأمنية.
وأشار سعيد صادق لـ”العرب” إلى أنه عندما طلب السيسي من المصريين التظاهر ضد تصفية القضية الفلسطينية ومنع تهجير سكان غزة إلى سيناء خرجوا واحتشدوا خلف الفكرة، وتناسوا مشكلاتهم الاقتصادية، ومن الخطأ أن تعول الحكومة على أن الشعب يدرك مخاطر المأزق الراهن لتمارس هوايتها في غض الطرف عن تفهم ظروفه.
ويخشى معارضون أن تستمر الحكومة على نفس الوتيرة بتوظيف الحرب على غزة في وضع المزيد من الضغوط والأعباء على المواطنين، ولا تتدخل نحو إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، أو على الأقل تُشعر الناس بأنهم يستحقون وضعا أفضل طالما أنهم يساندون الدولة دون شرط أو قيد، لكن استمرار الصمت قد يفضي إلى خطر يصل إلى حد تآكل الدعم الشعبي للسلطة، وهي في ذروة حاجتها لاصطفاف يصعب اختراقه.