حتى أنت يا خافيير ميلي.. ولك ألوووو

لم يكن ينقص المشهد داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخاصة في قطاع غزة الذي تستعر فيه صنوف العدوانية الصهيونية، وتتعدد مستوياتها، سوى زيارة الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي إلى تل أبيب في خطوة قد تُضيف فرقا سياسيا لبنيامين نتنياهو لا يمكن تجاهله أو القفز فوق مفاعيله.
وتفرض هذه الزيارة التي بدت صادمة في توقيتها، سلسلة لا تنتهي من القراءات، لاسيما وأنها كشفت عن عدائية واضحة وصلت إلى حد الصفاقة، وعن تهور وحماقة أحاطا بها، وسط نفاق سياسي ولهاث محموم لتبرير الهيجان الدموي والوحشي الذي يُمارسه الكيان الصهيوني على المدنيين في قطاع غزة.
وعلى وقع هذا المشهد بما يحمله من متغيرات إقليمية ودولية تتفاعل بقوة وسط استهجان واستنكار القوى الحية في العالم استمرار العربدة الصهيونية بما تنطوي عليه من تطورات مفصلية، اختار خافيير ميلي القيام بهذه الزيارة، وذلك بعد شهرين فقط على توليه منصبه خلفا للرئيس ألبرتو فرنانديز.
ووصل خافيير ميلي الذي كان قد فاز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 10 ديسمبر الماضي، بولاية رئاسية ستتواصل لغاية العام 2027، إلى تل أبيب يوم الثلاثاء الماضي، ليمنح بذلك عوامل إضافية للكيان الصهيوني للاستمرار في بطشه بالفلسطينيين الذي أخذ سياقا دمويا غير مسبوق.
هذه الزيارة لن تُغير الكثير في معادلات المشهد الراهن، لاعتبارات مرتبطة بحجم دور الأرجنتين في المنطقة، وبالنظر إلى كون خافيير ميلي ليس سوى ظاهرة صوتية ستتلاشى قريبا
وخلال هذه الزيارة المثيرة للاشمئزاز، لما انطوت عليه من استفزاز وقح في هذا الوقت الذي تشهد فيه المنطقة وضعا متفجرا بات ينزلق باتجاهات مُختلفة، أعلن خافيير ميلي ساعة وصوله إلى مطار بن غوريون عن دعمه للدولة العبرية، وذلك بلغة لم تخل من الكثير من الصفاقة السياسية.
وذهب خافيير ميلي بعيدا في صلفه، عندما أكد خلال هذه الزيارة التي أنهاها الخميس، أن خطته كرئيس للأرجنتين تهدف إلى نقل السفارة الأرجنتينية من تل أبيب إلى القدس، في موقف نسف فيه مجمل قواعد القانون الدولي الذي يعتبر القدس أرضا فلسطينية محتلة.
ولم يكتف بالإعلان عن هذا الموقف الذي يعكس انحيازا فاضحا للاحتلال، وتشجيعا له على مواصلة جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، وإنما عمد أيضا إلى زيارة حائط البراق، حيث ظهر في صورة وهو يذرف دموع التماسيح حينا، ومذعورا حينا آخر، أثارت غضبا وسخطا تجاوزا المنطقة العربية ليصل إلى أميركا اللاتينية.
وتتالت بيانات التنديد بهذه المواقف المشينة التي نحسب أنها لن تُغير من حقيقة الكيان الصهيوني المجرم والعنصري القائم على سياسة التطهير العرقي، وتهجير أصحاب الأرض، ترافقت مع موجة استنكار واسعة لهذا السلوك المُنافق الذي تزامن مع مرور أكثر من أربعة أشهر على المجازر المتواصلة في قطاع غزة.
ورغم خطورة ما أقدم عليه خافيير ميلي من عبث سياسي أملته حسابات ومعادلات خاطئة، بل مُراوغة لتبرير هذا الاصطفاف الذي يرسم معادلات خادعة إضافية على تخوم مشهد يتداعى أمام سلسلة من المُتغيرات المفصلية، لم يجد ناشط فلسطيني المفردات المناسبة للتعليق على ذلك، سوى القول ”… حتى أنت يا خافيير ميلي… ولك ألووووو”.
وأصبح هذا التعليق العفوي مادة للسخرية والتهكم على خافيير ميلي، وسرعان ما تحول إلى ما يُشبه “الترند” ضجت به مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، ليس فقط لأن عبارة “ألووووو” تكتسح منذ مدة منصات التواصل الاجتماعي، وإنما أيضا لإدراك الجميع بأن مواقف ميلي لن تطمس أبدا الحق الفلسطيني.
لكن هذا الإدراك الذي تدعمه مجريات الأحداث المُعمدة بالدم، لا يحجب خطورة زيارة خافيير ميلي إلى تل أبيب، وما تنطوي عليه من اعتبارات حملت جملة من الدلالات الهدف منها تقديم صورة مغايرة للمأزق الذي يُحيط بنتنياهو في هذه المرحلة المفتوحة على كل الاحتمالات.
الزيارة وفرت غطاء سياسيا لنتنياهو، ومكنته من حقنة لإنعاش أوهامه ولو بحدها الأدنى، عبر الرهان عليها أو التعويل على نتائجها بتفاصيلها وإيحاءاتها المثيرة بحجم النفاق الذي أظهرته
وعلى هذه الأساس، يُنظر إلى زيارة خافيير ميلي بتوقيتها ومضامين القضايا التي طرحتها، على أنها رسالة أراد منها أن تكون على مقاس نتنياهو الذي يتخبط منذ السابع من أكتوبر وسط حسابات خاطئة زادت من الضغوط السياسية التي يتعرض لها من الداخل والخارج.
وهي بذلك، قد تفتح ثغرة في جدار الحصار المفروض على نتنياهو، وتُضيف له هامشا سياسيا لا يمكن تجاهله، قد يستثمره في ظروف أزمته الراهنة بكل ما تحمله من تعقيدات تتشابك فيها العوامل على صعيد الداخل الإسرائيلي بالتطورات الإقليمية، وكذلك أيضا الدولية التي تفرضها الحسابات السياسية.
والأخطر أن هذه الزيارة وفرت غطاء سياسيا لنتنياهو، ومكنته من حقنة لإنعاش أوهامه ولو بحدها الأدنى، عبر الرهان عليها أو التعويل على نتائجها بتفاصيلها وإيحاءاتها المثيرة بحجم النفاق الذي أظهرته، لكي يُواصل ممارساته الإجرامية في غزة بعيدا عن المساءلة الداخلية والخارجية.
وتبقى المسألة هنا أبعد من مجرد زيارة استعراضية بمقاربات سياسية، وإنما تتجاوز ذلك لتصل إلى إسقاطات دينية خطيرة تم اللجوء إليها لمجاراة ما تُخلفه آلة الحرب الصهيونية من قتل ودمار وخراب، في مسعى لرسم معادلات جديدة لتُضيق بها الخناق على المقاربات القادمة التي مازالت تتخبط وسط تباين الأجندات وتضارب الرؤى والأهداف.
وبدت هذه الإسقاطات واضحة، منذ أن برر خافيير ميلي الذي أعلن في تصريحات سابقة أنه قد يتحول إلى اليهودية، عزمه نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس بنص من الكتاب المقدس يقول “عندما أمر الله موسى بكسر ألواح القوانين، كانت أول كلمة يكتبها هي القدس، وهناك بنى داوود العاصمة”.
لذلك، لا يمكن القول إن هذه الزيارة ليست ذات جدوى بالقياس إلى دلالاتها الآنية، ولكن نحسب أنها لن تُغير الكثير في معادلات المشهد الراهن، لاعتبارات مرتبطة بحجم دور الأرجنتين في المنطقة، وبالنظر إلى كون خافيير ميلي ليس سوى ظاهرة صوتية ستتلاشى قريبا، ليبقى ذلك التعليق “حتى أنت يا خافيير ميلي.. ألوووو” شاهدا على نفاقه.