حب عارم في الحياة الثانية
ما أجمل أن تتحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى منابر لإشاعة الحب والمودة بين الناس، فتنمو في مساحاتها الأحاسيس الجميلة وتفيض المشاعر الرومانسية والإنسانية متصدية لمحتويات الكراهية والعنف والتطرف.
كم تغمرني الفرحة عندما تطفو كلمات العشق والصور المبهجة المشحونة بالعواطف البريئة والأحاسيس المرهفة لأصدقائي الفيسبوكيين المراهقين من أبناء أقاربي، ممن وجدوا في فيسبوك مساحة حرة للبوح بما يختلج في قلوبهم، وليعرفوا أنفسهم بما يحبون وليس بما يكرهون.
ما أروع أن يصبح الصغار كبارا فيُحِبّون ويحَبّون، فالحب كالدنيا كما وصفها الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه “إذا أقبلت على الإنسان كسته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه”.
وتجارب الحب التي يمر بها المراهقون ليست بلا أهمية، فمن خلالها يكتشفون هويتهم وميولاتهم الجنسية، وكل تجربة رغم لوعتها بالنسبة إليهم إلا أنها تساعدهم على تكوين رصيد معنوي، يولد لديهم القدرة على تنظيم عواطفهم والتحكم في غرائزهم مستقبلا، وتجعلهم أكثر قدرة على ربط علاقات عاطفية واجتماعية ناجحة.
وتأكيدا على ذلك قال الفيلسوف الألماني يوهان غوته “كم بتّ أحب نفسي منذ أن أحبتني حبيبتي الشابة، ففي المقام الأول، تدفعنا نظرة الحب إلى أن نتقبّل أنفسنا من خلال تأثيرها الذي يشعرنا بقيمتنا الكبيرة في عيني الشخص الآخر، وذلك من خلال تحويل الضفدع الكبير الساكن في داخلنا إلى أمير جميل”.
ولا تكمن المشكلة في أن فيسبوك قد أصبح يلعب دورا كبيرا في صياغة قصص الحب بين المراهقين، أو في أنه منحهم حرية أكبر لإقامة العلاقات العاطفية، بل في تحوله إلى صندوق أسرارهم، حتى أنه بات يعرف عنهم أكثر مما يعرفه آباؤهم عنهم.
من المؤسف أن معظم الآباء منشغلون في العمل أو عالقون في حديث مع الغرباء على مواقع التواصل الاجتماعي، فيما يعيش أبناؤهم حياة افتراضية ويربطون علاقات مع شخصيات في أغلبها وهمية، فيكبرون دون أن يفهموا معنى العلاقات الحقيقية وكيفية اتخاذ قرارات مسؤولة، بالإضافة إلى افتقارهم للكثير من المهارات التي يحتاجونها في الحياة بشكل عام.
وما يثير القلق أن البعض من المراهقين ممن لا يجدون من يساعدهم من آبائهم أو أقربائهم على العبور الآمن إلى مرحلة البلوغ، ويقدم لهم الإرشاد والنصح ويجيب عن أسئلتهم المتراكمة بخصوص التغيرات الطارئة على أجسادهم، يكونون في الغالب أهدافا سهلة للكبار من مدمني الاستغلال الجنسي.
وفي عالم المراهقين المهووس بالتكنولوجيا، يبدو أن الصحة الجنسية والصحة النفسية تسيران جنبا إلى جنب مع بعضهما، فرغم تراجع معدلات الإصابة بفيروس الإيدز على مستوى العالم خلال السنوات العشر الماضية إلا أنها ارتفعت في صفوف المراهقين.
وقد أشار تقرير أصدرته مؤخرا منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف” إلى أن طفلا من بين كل ثمانية من المراهقين يصاب بالفيروس، مشددا على أن منصات المواعدة على الهواتف الذكية عامل أساسي في زيادة الإصابة بالإيدز بين المراهقين.
الأطفال في سن المراهقة في حاجة إلى الحب والعطف والدعم المعنوي والتفهم من الأهل أكثر من أي وقت مضى، وحين لا يجدون الحنان بين أحضان والديهما المنشغلين عنهما طوال الوقت، فإنهما يحاولون التعويض عن ذلك بطرق أخرى، فتكون الإنترنت منفذهم لإرواء مشاعرهم المتلهفة للحب، وهكذا يكون الآباء أحيانا سببا في ضياع أبنائهم، حتى وإن كان ذلك عن غير قصد.
صحافية تونسية مقيمة في لندن