حب عابر للسنوات

تعلل الكثیر من الشباب الذين یفشلون في سنوات زواجهم الأولى بظروف اقتصادیة طاحنة وظروف اجتماعیة شدیدة القسوة كما یصفونها.. شماعات علقوا علیها أباطیلهم للفرار من مسؤولیة الزواج.
الاثنين 2018/12/10
حب يتخطى العمر

جمعت حروف اللغة كي أكتب لك رسالة حب، فعجزت عن وصف حبي لك، هكذا أرى كافة اللغات الحیة خجلى وعاجزة أمام عینیك الدافئتین حبیبي. من دفاتر سیدة مسنة بلغت الستین من عمرها، وجدت رسائل غرامیة عدیدة أرسلتها لزوجها طیلة عمرهما الزوجي البالغ ثلاثين عاما.

وكانت الجملة المدهشة للتعبیر عن عجز اللغة عن وصف مشاعرها أكثر من رائعة، وحدها هذه الجملة تحمل آلاف الرسائل والمعاني، تتدثر بالحب طیلة سنوات العمر الفائت، تكتب رسائلها لتدخر لأبنائها وثیقة رسمیة تعبیرا عن هذا الحب.

الغریب أن زوجها توفي منذ ثلاث سنوات، وهي مازالت تكتب الرسائل وتلصق علیها طوابع البرید وتغلقها جیدا، سألتها في لیلة ماطرة: لماذا تكتبین لمیت؟

صرخت المرأة في وجهي، لتجیب على سؤالي بسؤال آخر، ومن أدراك أنه مات؟ للحظة لجم سؤالها لساني وعقد الحروف على شفتي، تخیلت أنه ألم الفراق، ووجد الحب، أفقداها رشدها، خشیت أن أجرحها بكلمة صادمة إن نطقت، لكنني في الوقت ذاته لم أستطع الصمت، فما عساي أفعل؟

حارت معي الردود المنطقیة، فاختبأت خلف ابتسامة عریضة وربتة حانیة على كتفیها تبعها عناق، بكت المرأة بحرارة ودفء، وشاركتها البكاء، لكن لیس للمشاركة، إنما سبب أقوى مني خارج عن إرادتي أبكاني، ربما تعاطفا مع المرأة، وربما حزنا علیها، لكن تظل الحقیقة المؤكدة أنني بكیت معها لوقت طویل، كانت تدس رأسها في صدري في طفولة طازجة لا تلیق بامرأة ستینیة أصبحت جدة منذ سنوات.

لكنه الشعور الإنساني المتمرد على العمر وسنواته، الحب البكر العابر للأعوام رغم وفاة صاحبه، ورغم سنواتها الستین. بمجرد أن أفرغت شحنة قلبها، عدلت من هیئتها قبل أن تهم بإیضاح الأمر بصورة عاشقة، ولا أبالغ بوصفها عشقا یفوق ما نشاهده في الدراما وعلى شاشات السینما العملاقة.

قالت بصوت فتاة یطرق الحب بابها للمرة الأولى: یبدو أنك تریدین المعرفة یا بنیتي ولهذا سأشرح لك الأمر، ولماذا أحرص على كتابة رسائلي رغم كل هذه السنوات التي مرت على وفاة زوجي، لكنني أود ان أترك لأبنائي وأحفادي رسائل یقرأونها لیتعلموا الحب، تدوین المشاعر هو إمساكها حتى لا تهرب وتتفلت من أیدینا كالماء، أرید أن تظل مشاعري طازجة، ساخنة، حتى نلتقي في عالم آخر.

لا تعتقدي خطأ أننا عشنا الحیاة في رفاهیة، ویسر بلا مشكلات، إطلاقا، فقد مرت بنا ظروف شدیدة الصعوبة، وقاسیة للغایة، سنوات عجاف، وجدب في كل شیء، استغنت المؤسسة التي كان یعمل بها عنه ضمن حملة تصفیة طالت كثیرین، أخفینا الخبر عن أبنائنا حتى لا تتشتت أفكارهم أو یهملون دراستهم، وخرجت أنا للعمل وحملت على عاتقي عبء الإنفاق، وكلما زادت الحیاة قسوة كلما كان لطیفا حانیا، یحمل عني الكثیر، وحین تبدلت الأحوال، ونفض عنه غبار التعطل بمشروع صغیر، توجني ملكة على عرش قلبه، لم یترك مناسبة إلا ویذكر ما قمت به، حتى شعر الأبناء وأنا معهم أنني قمت ببطولة تشبه بطولات رجال الحروب.

ألا یستحق هذا الرجل وهذه الحیاة أن أظل أحیاها ما بقي من عمري، وأن أكتب كل كلمة وكل همسة همس بها لقلبي یوما.

أدركت بعد حدیث طویل مع هذه المرأة العاشقة أن الحب متمرد على الزمن، لا یعترف بتقویم، ولا یفتر بعد زواج طویل كما یردد البعض، فربما زادته العشرة وطول السنوات بریقا وتألقا، وتمتینا، الأموات یسكنون القبور، فقط لتأخذ الأرض حقها في تحلل الجسد البالي، لكن الأرواح تظل ترفرف فوقنا، تصاحبنا، وغالبا لا تستقر الروح إلا في المكان الذي تألفه وتستأنس بأهله.

أدركت أیضا أن تعلل الكثیر من الشباب الذين یفشلون في سنوات زواجهم الأولى بظروف اقتصادیة طاحنة وظروف اجتماعیة شدیدة القسوة كما یصفونها، مجرد أكاذیب أطلقوها ثم صدقوا أكاذیبهم، شماعات علقوا علیها أباطیلهم للفرار من مسؤولیة الزواج، بعد أن اختزلوه في ساعات الفرح القلیلة، والحفل الباهر.

أقدم هذه المرأة نموذجا لوفاء زوجة تخطى حبها العمر والحیاة والموت، حتى باتت أیقونة للعشق العابر للسنوات.

21