حب اللحظات الأخيرة

الرجل لم يكن شيطانا، ولم يصبح بطرفة عين ملاكا، هو بشر، لكنه تطرف المشاعر، وحب اللحظات الأخيرة، فكم من السرطانات نحتاجها لنشعر بقيمة من حولنا، ونكتشف حقيقتهم؟
الاثنين 2019/05/13
لا تحكموا على البشر بآذانكم

كثير من البشر لا يحكمون على غيرهم بأعينهم بل يحكمون عليهم بآذانهم، فقط بما يسمعونه من الغير، على الرغم من معايشة بشرية كاملة للبعض والتعرف عن قرب على سلوكياتهم، إلا أن كثيرا من ضعيفي القدرة على التواصل والصداقة المخلصة مع الآخر يركنون إلى أحكام معلبة سابقة التجهيز يبثها أحدهم في آذانهم، ويصدرها لهم، فيتعاملون بها كمسلمة وليست حتى كفرضيات قابلة للصحة أو التقويض والهدم.

مرضى القلوب ومتصلبو القدرة على التواصل والصداقة هؤلاء ما أكثرهم في كافة المجالات وشتى الطرق، منتشرون في أماكن العمل، وبين جيران المنطقة الواحدة وربما البناية، والأبشع أن يكونوا أبناء عائلة واحدة، أو مؤسسة واحدة. فتنهدم الثقة بين أخوة بمجرد سماع رأي سلبي، أو تفقد أم القدرة على التسامح مع أبنائها، بعدما سمحت لأذنيها بسماع وشاية مغرضة أو حديث عابر استرق سمعها.

هؤلاء لا يتركون لأنفسهم فرصة التريث والتركيز على فحص المواقف التي عاشوها بأنفسهم، ويركنون إلى فلسفة الكسل الرافض للتدقيق، واستسهال الأحكام الجاهزة.

وهذا بالضبط ما حدث مع المذيع اللامع شريف مدكور، فالرجل خلوق ومهذب لا يرد مطلقا على ما يوجه له من انتقادات لاذعة، وما يكيل من سباب وشتائم، لا يلتفت لأحد فقط يعمل، يواجه النقد بالعمل.

استضافته قنوات فضائية عديدة، كشف خلال حواراته معها عن تطوعه منذ الصبا في تغسيل الموتى وتكفينهم، ولكن لم يلتفت لهذا أحد.

حتى أن إحدى الفنانات المعروفة بفقدان السيطرة على تصريحاتها بما يتجاوز كافة الحدود قالت له نصا “أنت كرتونة بيض” كناية عن اتهامه بالبرود واللزوجة والكثافة، اللافت في الأمر أنه تواجد بالمسرح لسماعها، وكان من أشد معجبيها، ولم يرد عليها حتى لا يحرجها أمام طفلتيها!

مواقف عديدة تدلل على أخلاقياته ورقيه، فضلا عن إنسانيته مع الآخرين، واضحة للعيان، لكن ظل المعظم يتعامل معه بالأذن وليس بالعين!

لكن حين كشف شريف عن مرضه الخطير وإصابته بسرطان القولون، كون شعب الفيسبوك جبهة قوية دون اتفاق مسبق بينهم على مؤازرته، والوقوف بجانبه “فيسبوكيا”، والدعاء له على المنصة الزرقاء!

إلى هنا فالأمر رائع حقا، رجل مريض، وأناس يهمسون بالدعاء لأذن السماء، يختلون في غرفهم ومصلاتهم بالملائكة، يرفعون أكف الضراعة وتلهج ألسنتهم لله تعالى بالشفاء والعافية.

الغريب في الأمر، أن من أكثر المذيعين الذين طالتهم سهام النقد وكيلت لهم الشتائم والسباب، والطعن في كل تصرفاته وأفعاله هو شريف مدكور، وصفوه باللزج، مدعي الثقافة، متشبه بالنساء، إلى غير ذلك مما لا تستطيع يداي كتابته.

العجيب أن الرجل كما هو، لم يتغير، ما تغيرت هي النظرة التي حولته من إنسان ضعيف الشخصية، يرتدي ملابس مشجرة ومزركشة، وألوانا زاهية لا تليق به ولا بسنه، يرقص مع ضيوف برنامجه، يجرب بعض منتجات الرعاة التي يتم الإعلان عنها، إلى ملاك يساعد المحتاج ويغسل الموتى، وأنه حفيد الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية الأسبق والذي أعاد بناء الجيش المصري بعد نكسة 1967، وكان قبلها مديرا للكلية الحربية.

ويعد فوزي جد مدكور لأمه، من أشرس رجال العسكرية المصرية وتم القبض عليه وحبسه في قضية مراكز القوى وبعد نصر 1973 أفرج عنه الرئيس السادات لدوره المؤثر وجهوده في إعادة بناء القوات المسلحة.

ذهب متطرفو المشاعر لأبعد من هذا، بعدما تغير الوضع، واصفين شريف بالحاسم في عمله وأنه في منتهى الحسم والحزم والقوة وحسن الأداء، وعبقرية الإدارة، وعدم الاغترار بالمظاهر.

عاش شريف كما يحلو له، وضع قائمة مهام يسعى لتحقيقها، ترك كل الكلمات السلبية التي من شأنها النيل منه، ألقى بكافة التعليقات السيئة وراء ظهره وتقدم في عمله، استمتع بكل لحظة من حياته دون التفات لأحد، صال وجال، حقق نجاحات عظيمة في مجال عمله، طور من مهاراته، قفز قفزات سريعة مجتهدة.

مدكور والكلمات السلبية، وسيناريو الحكم بالأذن عوضا عن العين والحكم على المواقف ذاتها، ليس استثناء يشذ عن قاعدة من الإيجابية والإخلاص بل هي القاعدة في التعامل مع الآخر، فربما كذب الإنسان.

في معاينة بسيطة لمجريات الأمور من حولنا نجد أننا نحكم بوجهة نظر حاسد أو حاقد أو كاره، أو لص يتخفى من أعين يمكنها النظر إليه وكشف نواقصه.

الرجل لم يكن شيطانا، ولم يصبح بطرفة عين ملاكا، هو بشر، لكنه تطرف المشاعر، وحب اللحظات الأخيرة، فكم من السرطانات نحتاجها لنشعر بقيمة من حولنا، ونكتشف حقيقتهم؟

أعتقد أننا بحاجة ماسة لإعادة نحت المفاهيم والمسلمات، وإعادة تشكيل تقبل الآخر كثقافة يفتقدها البعض، فريضة غائبة عن كثيرين، عوضا عن الاغتراب الموحش في أحكام سابقة التعليب.

كثير من المشاهدين مدينون باعتذار واجب للرجل، هم يعلمون ويقدمون اعتذارهم هذا، لكن المؤسف أن الأكثر منهم مدينون بأكثر من مجرد الاعتذار لغيرهم الذين ظلموهم بالحكم بالأذن وغض الطرف عن معاملتهم الحسنة الظاهرة كضوء الشمس، وهؤلاء هم الآفة الأكبر.

21