حان الوقت لاستراتيجية التعايش مع كورونا

تقبل وجود الفايروس كالأنفلونزا الموسمية وتوخي الحذر من عدواه أقصر الطرق لكسر طوق الوباء.
الثلاثاء 2021/03/09
الفايروس وُجد ليبقى

ليس من السهل القضاء نهائيا على الوباء وعودة الحياة كسابق عهدها، لكن ذلك لا يمنع من وضع مجموعة من الخطط والاستراتيجيات التي تساعد الناس على تعلم التعايش مع الوباء ومواجهته، وقد أقرّت مجموعة من العلماء أنه حتى في ظل وجود اللقاحات وإمكانية اكتساب نسبة كبيرة من الأشخاص لمناعة طبيعية ضدّه فإنه ليس من الممكن أن يختفي بشكل نهائي، ولذلك يجب على المجتمعات أن تتكيف معه بالطريقة ذاتها التي تكيّفت بها مع فايروسات الأنفلونزا والأمراض الموسمية الأخرى من دون الاضطرار إلى إجراءات الإغلاق.

لا يُبدي الكثير من العلماء تفاؤلا بإمكانية أن تؤدي لقاحات كورونا الفعالة والمناعة التي قد تطوّرها أجساد الناس بعد الإصابة بالمرض، إلى عودة الحياة إلى طبيعتها في المستقبل، بل يرجحون أن ذلك مجرّد حلم جميل وبعيد المنال.

وسألت مجلة “ناتشر” في يناير الماضي أكثر من 100 باحث في الأمراض المعدية وعلماء الفايروسات، عمّا إذا كان من الممكن القضاء نهائيا على الوباء مستقبلا. إلا أن 90 في المئة من المشاركين في الاستطلاع رجحوا أن فايروس كورونا سيستمر في الانتشار بجميع أنحاء العالم إلى أجل غير مسمّى.

وشبّه مايكل أوسترهولم، عالم الأوبئة بجامعة مينيسوتا الأميركية القضاء على هذا الفايروس بمحاولة بناء طريق نحو القمر، مشددا على أن الأمر برمّته غير واقعي.

مايكل أوسترهولم: القضاء على الوباء أشبه بمحاولة بناء طريق نحو القمر
مايكل أوسترهولم: القضاء على الوباء أشبه بمحاولة بناء طريق نحو القمر

مجرّد فايروس موسمي

 يعتقد العلماء أن الوفاة بالفايروس أو الإصابة به أو العزلة الاجتماعية لن تستمر بالمقاييس الحالية، وأن ملامح المستقبل ستتحدد بناء على نوع المناعة التي سيكتسبها الناس من خلال العدوى أو التطعيم وكيفية تطور الفايروس.

وتكشف جميع الأدلة المتعلقة بالوباء، والتجارب السريرية التي أجريت بعد نحو أكثر من عام من ظهور الوباء أن العدوى بالفايروس أو التطعيم ضدّه يمنح الناس بعض المناعة التي قد تتراجع بعد أشهر، لكن ذلك يتمّ على مرّ السنين، ومن المحتمل أن يصبح كورونا مجرّد فايروس موسمي آخر يواجهه البشر كل عام. ويتعلم العلماء والخبراء المزيد من الحقائق عنه على الدوام.

ومثل فايروسات الإنفلونزا التي تصيب البشر وتتسبب في نزلات برد مزمنة أيضا، لكن في ظل وجود مجموعة من اللقاحات السنوية واكتساب الناس مناعة طبيعية ضدها، فإن المجتمعات ستتكيف بالطريقة ذاتها مع حالات الوفيات والأمراض الموسمية التي تتسبب فيها الجائحة من دون الاضطرار إلى إجراءات الإغلاق أو ارتداء الكمامات واستراتيجيات التباعد الاجتماعي.

وسبق أن حذرت كبيرة العلماء في منظمة الصحة العالمية، سوميا سواميناثان، من أنه حتى مع بدء العديد من البلدان تنفيذ برامج التلقيح لوقف تفشّي كورونا، فإن مناعة القطيع مستبعدة إلى حدّ بعيد هذا العام.

وأوضحت سواميناثان أنه من الضروري للغاية أن تحافظ الدول وسكانها على مسافة تباعد اجتماعي صارمة، إضافة إلى إجراءات أخرى للسيطرة على تفشّي المرض في المستقبل القريب.

وقالت سواميناثان “حتى عندما تبدأ اللقاحات في حماية الفئات الأكثر ضعفا، فإننا لن نحقّق أي مستويات مناعة سكانية أو مناعة القطيع في عام 2021، ولو حدث ذلك في جيوب محدودة بعدد قليل من البلدان، فإنه لن يحمي الناس في جميع أنحاء العالم”.

ولا يستبعد أكثر من ثلث المشاركين في استطلاع “ناتشر” أنه سيكون من الممكن القضاء على الفايروس في بعض المناطق بينما سيستمر في الانتشار في مناطق أخرى. لكن حتى في المناطق التي ستصبح خالية من فايروس كورونا، فإن الخطر لن يزول تماما، لأنه من الصعب تحقيق مناعة القطيع ما لم يتمّ تطعيم معظم الناس.

وقال كريستوفر داي، عالم الأوبئة في جامعة أكسفورد البريطانية “أعتقد أن الفايروس سيختفي في بعض المناطق، لكنه سيظل منتشرا في مناطق أخرى لا تحظى بالرعاية الصحية الجيدة ولم يتمّ تعميم التطعيمات فيها ضدّ الفايروس بشكل كافٍ”.

فيما ترى أنجيلا راسموسن، عالمة الفايروسات من جامعة جورج تاون أن الفايروس قد يصبح مزمنا، كما يصعب التنبؤ بالنمط الذي سيكون عليه مستقبلا.

ملامح المستقبل ستتحدد بناء على نوع المناعة التي سيكتسبها الناس من خلال العدوى أو التطعيم وكيفية تطور الفايروس

ويتفق معظم العلماء والباحثين على سيناريوهات متشابهة عن مستقبل فايروس كورونا، وهي أنه بمجرد أن تتطوّر لدى الناس بعض المناعة ضد كورونا – إمّا من خلال العدوى الطبيعية وإمّا التطعيم – فلن يصابوا بأعراض حادة مستقبلا.

وقالت جيني لافين، باحثة الأمراض المعدية في جامعة إيموري بولاية جورجيا، إن الفايروس سيصبح “عدوا تمكن مواجهته وقد يتسبب عادة في ظهور أعراض خفيفة أو لا يسبب أيّ عدوى على الإطلاق”.

وباستخدام بيانات من دراسات سابقة، طوّرت لافين وزملاؤها نموذجا يوضح كيف يصاب معظم الأطفال بأنواع من فايروسات الجهاز التنفسي، لأول مرة قبل سن السادسة وتطوّرت لديهم مناعة ضدها.

ولاحظت لافين أن خط الدفاع هذا يتراجع بوتيرة متسارعة، لذا يصبح من الصعب منع الإصابة مرة أخرى، لكن يبدو أن ذلك يساهم في حماية البالغين من الإصابة بالمرض. وحتى عند الأطفال، تكون العدوى خفيفة نسبيا.

خلايا الذاكرة المناعية

التعايش مع الوباء
التعايش مع الوباء

لا يستبعد العلماء مثل هذه النظرية، الشبيهة بالطريقة التي تتصرف بها فايروسات كورونا المزمنة المعروفة، وقد كانت ثلاثة من هذه الفايروسات على الأقل، تنتشر بين البشر منذ مئات السنين؛ واثنان منها مسؤولان عمّا يقرب من 15 في المئة من التهابات الجهاز التنفسي.

وتمثل فايروسات كورونا فصيلة كبيرة من الفايروسات التي يمكن أن تتسبب في أمراض للبشر، ويمتد طيفها من نزلة البرد الشائعة إلى المتلازمة التنفسية الحادة والوخيمة (سارس).

وبالرغم من أنه لم يتضح حتى الآن، ما إذا كانت المناعة ضد فايروس كورونا ستتصرف بنفس طريقتها مع فايروسات نزلة البرد الشائعة، لكن دراسة واسعة النطاق أجريت على الأشخاص الذين أصيبوا بكورونا المستجد كشفت أن مستويات الأجسام المضادة لديهم – التي قد تساعد على منع العدوى مرة أخرى – تبدأ في الانخفاض بعد حوالي ستة إلى ثمانية أشهر، لكن أجسامهم تصنع ما يسمى بخلايا “الذاكرة المناعية”، التي ستقاوم العدوى الجديدة، وكذلك الخلايا التائية التي يمكنها القضاء على الخلايا المصابة بالفايروس، وفق ما أكدته دانييلا ويسكوبف، عالمة المناعة في معهد “لا جولا لعلم المناعة” في كاليفورنيا، والتي شاركت في تأليف الدراسة.

دانييلا ويسكوبف: من المستبعد أن يصبح الفايروس مزمنا لكن المناعة تتراجع
دانييلا ويسكوبف: من المستبعد أن يصبح الفايروس مزمنا لكن المناعة تتراجع

لم يتم تحديد ما إذا كانت هذه الذاكرة المناعية قادرة على منع العدوى الفايروسية مرة أخرى، حيث إن تم تسجيل حالات إصابة للمرة الثانية، فمن غير المستبعد أن تساهم الطفرات الفايروسية الجديدة في العدوى بالفايروس لمرات متتالية، لكن إلى حد الآن لا تزال الإصابة بالفايروس للمرة الثانية نادرة.

وأوضحت ويسكوبف أنه إذا تطوّرت لدى معظم الناس مناعة على مدى الحياة ضد الفايروس، إمّا من خلال العدوى الطبيعية وإمّا عبر التطعيم، فمن غير المرجح أن يصبح الفايروس مزمنا، لكن المناعة قد تتراجع بعد عام أو عامين – وهناك بالفعل إشارات إلى أن الفايروس يمكن أن يتطور ليخدع جهاز المناعة.

ويعتقد أكثر من نصف العلماء الذين شاركوا في استطلاع مجلة “ناتشر” أن ضعف المناعة سيكون أحد العوامل الرئيسية التي تؤدي إلى تفشي الفايروس.

ونظرا إلى استمرار ازدياد الإصابات في جميع أنحاء العالم، وتعرض العديد من الأشخاص لعدوى كورونا، فإن العلماء ما زالوا يصفون كورونا بأنه في مرحلة الجائحة، إلا أن لافين ترى أنه في المرحلة المزمنة، سيصبح عدد الإصابات ثابتا نسبيا عبر السنين.

وقالت لافين “إن الوصول إلى هذه الحالة المستقرة قد يستغرق بضع سنوات أو عقود، اعتمادا على مدى سرعة تطوّر المناعة عند البشر. وقد يكون السماح للفايروس بالانتشار دون إيقاف هو أسرع طريقة للوصول إلى هذه النقطة، لكن هذا من شأنه أن تنتج عنه عدة ملايين من الوفيات.

وأضافت “هذا المسار له بعض التكاليف الباهظة. والطريقة الأكثر قبولا من الناحية الأخلاقية هي عمليات التطعيم”.

اللقاحات ومناعة القطيع

Thumbnail

بدأت العديد من الدول حول العالم في حملات التطعيم ضد كورونا ومن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى انخفاض كبير في عدد الإصابات، لكن الإشكالية التي تطرح حاليا هي أن معرفة مدى فعالية اللقاحات في التقليل من انتقال العدوى قد تستغرق وقتا أطول، وتشير البيانات المستمدة من التجارب السريرية إلى أن اللقاحات التي تمنع العدوى المصحوبة بأعراض قد تمنع أيضا الشخص من نقل الفايروس.

فإذا كانت اللقاحات قادرة على منع انتقال العدوى بالفايروس وأثبتت فعاليتها أيضا ضد الطفرات الجديدة، فقد يكون من الممكن القضاء على الوباء في المناطق التي يتم فيها تطعيم عدد كافٍ من الأشخاص حتى يتمكنوا من حماية أولئك الذين لا يتم تطعيمهم، ما يلعب دورا مهما في مناعة القطيع.

ويمكن أن يساعد اللقاح الفعال بنسبة 90 في المئة على منع انتقال العدوى إلى 55 في المئة على الأقل من السكان لتحقيق مناعة مؤقتة للقطيع طالما استمرت تدابير التباعد الاجتماعي واستخدام أقنعة الوجه والعمل من المنزل، وفقا لنموذج طورته ألكسندرا هوجان في إمبريال كوليدج بلندن وزملاؤها.

كما يجب أن يصل اللقاح إلى ما يقرب من 67 في المئة من الناس لتحقيق مناعة القطيع إذا تم رفع جميع تدابير التباعد الاجتماعي. ولكن إذا زاد معدل انتقال العدوى بسبب طفرات جديدة في الفايروس، أو لأن اللقاح أقل فعالية من 90 في المئة في منع انتقال العدوى، فعندئذ يجب أن يغطي اللقاح نسبة أكبر من السكان لإضعاف دورة انتشار الفايروس.

لكن تلقيح نحو 55 في المئة من السكان يبدو أمرا صعبا في العديد من الدول، وهو ما يجعل الفايروس يستمر في الانتشار، ما يعني أنه حتى إذا ظل الفايروس مستوطنا في العديد من المناطق، فمن المحتمل أن يستأنف السفر حول العالم عندما يتم تقليل الإصابات الشديدة إلى مستويات يمكن أن تتعامل معها الخدمات الصحية، ويتم تطعيم نسبة عالية من الأشخاص المعرضين للإصابة بمرض شديد.

Thumbnail

وتعد جائحة الأنفلونزا الإسبانية التي ظهرت عام 1918، وأودت بحياة أكثر نحو 50 مليون شخص، المعيار الذي يتم من خلاله قياس جميع الأوبئة الأخرى.

ونشأت جميع حالات الأنفلونزا والأوبئة التي تلتها منذ ذلك الحين، عن أحفاد فايروس عام 1918، وهذه الفايروسات الفرعية تنتشر في جميع أنحاء العالم، وتصيب ملايين الأشخاص كل عام.

ولا تزال الأنفلونزا الموسمية تحدث خسائر كبيرة على مستوى العالم، حيث تودي بحياة ما يقرب من 650 ألف شخص سنويا. وتعتقد جيسي بلوم، عالمة الأحياء التطوري في مركز فريد هاتشينسون لأبحاث السرطان في سياتل، أن فايروس كورونا قد يتبع مسارا مشابها.

ويعتقد أكثر من 70 في المئة من الباحثين الذين شاركوا في استطلاعات “ناتشر” أن هروب الفايروس من جهاز المناعة وتخفّيه سيكون محرّكا آخرا لاستمرار انتشار الفايروس.

17