حاميها حراميها: من يحل أزمة ليبيا المالية

دقت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا ناقوس الخطر، وأعربت عن قلقها إزاء التدهور المتسارع في الوضع الاقتصادي. ودعت جميع الأطراف إلى تجاوز تبادل الاتهامات والعمل على التوصل إلى توافق بشأن إجراءات عاجلة تهدف إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي، مشيرة إلى أنه “من الضروري اتخاذ خطوات فورية للتخفيف من الآثار السلبية التي أثقلت كاهل المواطن الليبي.”
بيان البعثة لن يكون له أيّ تأثير على الواقع المتردي للمالية العامة في بلد يمتلك مقدرات طائلة قادرة على إسعاد شعبه وجعله بين أكثر الشعوب ثراء، ليس في المنطقة فقط، بل على مستوى العالم، سواء من حيث النفط والغاز أو من حيث الحديد والفوسفات والذهب وغيرها، أو من حيث المعادن النادرة التي باتت المحرك الأساسي لعالم اليوم. والسبب أن الأزمة وليدة إرادة جماعية من قبل فاعلين أساسيين في المشهد العام يتحركون وفق أهدافهم وغاياتهم بعيدا عن مصالح الدولة والمجتمع. وهم يتمتعون بحصانة من مجتمع دولي لا يجتمع إلا على مصالح قادته وزعمائه النافذين غربا وشرقا.
خلال الأيام الماضية، انكشفت ملامح الصورة أكثر. محافظ مصرف ليبيا المركزي السابق الصديق عمر الكبير اعتبر أن البيان الصادر عن المجلس الرئاسي بتاريخ السابع من أبريل الجاري بشأن الأوضاع المالية والنقدية في ليبيا يعكس استفاقة متأخرة جدا، وانتقد ما وصفه بـ”القرارات العبثية والمخالفة للقانون التي تهدف إلى افتعال أزمات لتحقيق مصالح شخصية،” لافتا إلى أن “المركزي سبق أن حذر مرارا من تدهور الوضع المالي،” وذكّر بمراسلتين جرى توجيههما إلى رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة في 26 فبراير و21 مارس 2024، تضمنتا شرحا وافيا وتحذيرا صريحا من خطورة الوضع، بحسب تعبيره.
◄ إذا كان لا بد من توصيف مباشر للوضع فإن "حاميها حراميها"، واللصوص يستفيدون من وضع لا يزال قائما منذ 14 عاما، وسيستمر لسنوات أخرى، طالما أن المستفيد منه هو صاحب القرار في إدامته أو تجاوزه
نبّه الكبير إلى أن رئيس المجلس الرئاسي يترأس اللجنة المالية العليا المعنية بمراقبة الإنفاق العام، وتساءل عن سبب عدم اتخاذ هذه اللجنة أيّ إجراءات لوقف الإنفاق الموازي. وأوضح أن اتفاق جنيف لا يمنح المجلس الرئاسي صلاحية إعداد ترتيبات مالية طارئة، مشيرا إلى أن المجلس كان أولى به التركيز على مهامه الأساسية، وعلى رأسها المصالحة الوطنية وتنظيم الانتخابات. وتابع أن مصرف ليبيا المركزي تمكن من إعلان توحيده في 20 أغسطس 2023، وبذلت إدارته جهودا كبيرة لتحقيق موازنة موحدة للعام 2024، متسائلا عن دور المجلس الرئاسي خلال هذه المرحلة الحاسمة. ونفى بشكل قاطع تقديم مخصصات مباشرة للحكومتين، موضحا أن جميع الصرفيات تمت وفق أذونات من وزارة المالية بحكومة الوحدة الوطنية.
في أغسطس 2024، أطاح المجلس الرئاسي بالكبير من منصب المحافظ وقرر تشكيل مجلس إدارة جديد. لم يكن محمد المنفي ونائباه اللافي والكوني أصحاب القرار، وإنما حكومة طريق السكة وقادتها الأصليون المتمركزون فوق رأس عبدالحميد الدبيبة باعتباره الظاهر في الصورة، وشركاؤها في المنطقة الشرقية. بعد ثمانية أشهر، تبين أن الوضع السابق كان مثاليا مقارنة بالوضع الحالي الذي باتت فيه محاضر اجتماعات مجلس الإدارة قابلة للتسريب، كما حصل مع محاضر اجتماعات المجلس مؤخرا بعد قراره بخفض قيمة الدينار أمام الدولار. المحافظ السابق محمد الشكري أشار إلى أنه، ومنذ 70 عاما، أي منذ إنشاء المصرف المركزي، لم يتسرب أيّ من محاضر اجتماعاته، ولم يتم تصنيف قرارات أعضائه حسب جغرافية مناطقهم. كلمات الشكري موجعة، ولكنها تكشف عن طبيعة العبث الذي بات يميز العمل المصرفي انطلاقا من المؤسسة السيادية المالية الأولى في البلاد، والذي يهدف بالأساس إلى إضعافها وإنهاكها وهدمها من الداخل بما يتيح السيطرة عليها وعلى العاملين فيها من قبل الفاسدين المتموقعين في مراكز القرار والمتحالفين من وراء الستار مع قوى خارجية لا تخفي رغبتها في بسط نفوذها على مؤسسات الدولة الليبية، وخاصة المصرف المركزي ومؤسسة النفط والاستثمارات الخارجية.
قال الصديق الكبير إن الأزمة المالية لا يمكن حلها إلا عبر خطط علمية وعملية، وحذّر من خطورة الاستمرار في تحميل المسؤوليات وادعاء البطولات، مشددا على أن إنقاذ الدولة يتطلب عملا جماعيا وجادا، بعيدا عن الاتهامات والتنصل من المسؤولية. لكنه يعلم بالتأكيد أن الأمر يحتاج أولا وقبل كل شيء إلى اجتثاث الفاسدين وتسبيق منطق الدولة على منطق الأسرة والجماعة والميليشيا، وإعادة الاعتبار للكفاءات الوطنية الحقيقية، ومن هناك إلى اعتماد سياسة شجاعة وجريئة وناجعة وعميقة تنبني على تأمين الثروة وترشيد الصرف وتنويع مصادر الدخل وقطع دابر المضاربين والتخلي عن اعتماد الدعم الذي جعل من ليبيا البلد الأرخص في المنطقة، بما جعل نفطه وسلعه وبضائعه المستوردة بالعملة الصعبة عرضة للتهريب المباشر عبر الحدود البرية مع ست دول مجاورة ومن ورائها إلى دول أبعد، وعبر البحر في اتجاه الضفة الشمالية للمتوسط، حتى أنه لا تكاد توجد دولة من دول الجوار لا توجد بها أسواق يطلق عليها اسم ليبيا.
المجلس الرئاسي شدد قبل أيام على أن ما وصفه بـ”الانقسام الهيكلي في مالية الدولة ومنظومة الدفع لا يمكن تحميل تبعاته للإدارة الحالية للمصرف المركزي، كما لا ينبغي أن تلقى على عاتقها مسؤولية إيجاد حلول فردية أو ناقصة قد تزيد من تأزيم المشهد المالي.” وقال إنه سبق أن حذر من خطورة تدهور وحدة المالية العامة منذ لحظة تشكيل سلطتين تنفيذيتين متوازيتين، مبينا أنه طرح حينها مبادرة لتشكيل لجنة مالية عليا حازت تأييد كافة الأطراف، غير أن الإدارة السابقة للمصرف، باستمرارها في توزيع المخصصات المالية بشكل مباشر على الحكومتين، أضعفت اللجنة وأجهضت دورها في وضع إطار مالي موحد. كما دعا إلى توافق وطني عاجل بين مجلسي النواب والدولة لإقرار قانون للموازنة العامة وإنهاء حالة ازدواج الإنفاق، محذرا من خطورة التباطؤ في ذلك. كما ناشد كافة الأطراف إعادة تفعيل اللجنة المالية العليا، بوصفها آلية تفاهم مرحلية ناتجة عن توافق وطني ودعم دولي، بهدف وقف الانحدار المتواصل في الوضعين المالي والنقدي.
◄ الكبير نبّه إلى أن رئيس المجلس الرئاسي يترأس اللجنة المالية العليا المعنية بمراقبة الإنفاق العام، وتساءل عن سبب عدم اتخاذ هذه اللجنة أيّ إجراءات لوقف الإنفاق الموازي
أشار الكبير إلى أن مصرف ليبيا المركزي تمكن من الحفاظ على حياديته ومهنيته على الرغم من التحديات الأمنية والانقسام السياسي المستمر منذ 2011، معتبرا أن قرار المجلس الرئاسي في أغسطس 2024 بتغيير إدارة المصرف هو ما تسبب في فرض رقابة دولية على المعاملات المالية للمصرف والمصارف الليبية.
تميز بيان المجلس الرئاسي بتناقض واضح، فهو “من جهة يتهم الإدارة السابقة بالتسبب في فوضى الإنفاق، ومن جهة أخرى يقر بعجز السلطة النقدية الحالية عن التعامل مع هذه الأزمة،” وفق رسالة الكبير التي أكد من خلالها أن لا علاقة له بخلق الإنفاق الحكومي، لاسيما أن كل أذونات الصرف التي نُفذت صدرت عن وزارة المالية بحكومة الوحدة الوطنية، بينما الإنفاق الموازي بدأ منذ العام 2015.
رئيس الحكومة المنتهية ولايتها خرج خلال اجتماع مجلس الوزراء ليعلن أن عضو المجلس الرئاسي موسى الكوني صرف 700 ألف دينار، وهو ما يساوي 130 ألف دولار أميركي تقريبا، على رحلة قصيرة إلى واشنطن لينتقد من هناك الأداء الحكومي ويتحدث عن الاحتلال الروسي لبلاده. هذا نموذج بسيط على سياسة الهدر، ولكن اللافت أن الدبيبة هو الذي أشار إليه بعد ثلاثة أيام من مغادرة الكوني نحو واشنطن. فأهم ما يتميز به المسؤولون هو أن كلّا منهم يرصد الفساد لدى غيره ويتجاهل فساده.
الوضع يبدو مأساويا أكثر عندما ندرك أن 32 في المئة من الليبيين، يعيشون تحت خط الفقر، بينما يولد مليونير جديد مع إطلالة كل يوم جديد، وفق ما أكده المبعوث الأممي الأسبق غسان سلامة، وذلك نتيجة هيمنة الميليشيات والكارتلات ومراكز النفوذ، وسيطرة ثقافة الريع ومنطق الغنيمة، وتفوق الحسابات الفئوية والجهوية والقبلية والأسرية على مفهوم الدولة وعقيدة الوطن، وظهور طائفة من الفاسدين واللصوص وناهبي المال العام الممتطين صهوة الجشع وغير المستعدين للإحساس بالشبع.
ولعل من المفارقات أن أكثر المسؤولين المنددين بالفساد هم الأكثر تفوقا في ممارسته على نطاق واسع. وقد نجح بعضهم في نهب المال من جهة، وفي كسب إعجاب الشارع من جهة ثانية، مكتفيا لتلميع صورته بولائه لهذا الطرف أو ذاك، وبالحصانة التي يمتلكها من وراء علاقته بالنافذين الأساسيين.
إذا كان لا بد من توصيف مباشر للوضع فإن “حاميها حراميها”، ولصوص النفط كلصوص الاعتمادات كناهبي المال العام كالمضاربين على العملة كالمتاجرين بالقرار الوطني كالعابثين بمفهوم السيادة كالمراهنين على التقسيم من أجل تكريس إمبراطوريات أسرية، يستفيدون من وضع لا يزال قائما منذ 14 عاما، وسيستمر لسنوات أخرى، طالما أن المستفيد منه هو صاحب القرار في إدامته أو تجاوزه.