حامد الناظر: لا أعرف كيف سيكون حال العرب من دون رواية

فن السرد منذ القدم معني بقضايا الصراع ومُستدعى إلى ساحات الحروب، لأنه معني برصد أوجاع الإنسان.
الأربعاء 2021/01/06
اقتحام عتمة العنف بضوء السرد (لوحة للفنان إسماعيل الرفاعي)

مهما شاهدت من وثائقيات وقرأت أخبارا ونصوصا تاريخية عن الحرب العالمية الثانية، فلن تكون بأهمية قراءة رواية “الساعة الخامسة والعشرون” للروائي البولوني قسطنطين جورجيو، حيث الأدب كاشف لخفايا لا يصلها غيره، وهذا ما يسعى إلى ترسيخه الكثير من الكتاب العرب، في ظل واقع عربي مثخن بالصراعات. في هذا الصدد كان لـ”العرب” هذا الحوار مع الروائي السوداني حامد الناظر الذي جعل من سرده كاميرا توثق آلام الحروب والعنف.

يستدعي بعض المبدعين أرواحهم للبحث والاستكشاف والخوض في مضمار تقديم إجابات شافية، حول إذا ما كان هناك ما يستحق الخراب الناجم عن الحروب. وإذا كان استقراء خفايا الصراعات ضرورة، ففي أرض مدفوعة للحرب مثل السودان، يُصبح البحث عن قراءة إنسانية هو المهمة الأولى. وهو ما كشف الكثير من تجلياته الأديب السوداني حامد الناظر في حواره مع “العرب”.

تكتسب رواية “عينان خضراون” للناظر، والصادرة عن دار التنوير في بيروت، أهمية لما تتضمنه من ولوج مباشر وحكي معايش لوقائع صراعات في دولة تمثل فسيفساء ثقافية وهويات متنوعة، حيث تتناول تفاصيل شخوص يعيشون وسط حرب وادي العقيق في المنطقة الواقعة إلى الجنوب من طوكر في أقصى شمال شرق السودان، وهي واحدة من الحروب المنسية.

أصل الفكرة

السرد يعالج أوجاع الحروب وصراعات البشر
السرد يعالج أوجاع الحروب وصراعات البشر

يؤكد الناظر في حديثه لـ“العرب”، أن الروائي معني بتسجيل ورصد النزاعات وبشاعة البشر، فما جرى في وادي العقيق المنسي والمُهمل من جانب الإعلام الدولي بشكل عام، والعربي بشكل خاص، لأن الحرب جرت بين دولتي السودان وإريتريا في أواخر التسعينات، مباشرة أو عبر وكلاء معارضين في البلدين، أعقبها اتفاق سلام وتحالف انشغل فيه الطرفان بالامتيازات، ولم يتم الاهتمام بتعويض السكان المتضررين في البلدين، وتم تجاهل مآسي الضحايا وعائلاتهم، خاصة من النساء، وهن الأكثر تضررا.

تحكي الرواية على لسان فتاة تدعى “عرفة”، وهي واحدة من ضحايا الحرب، وعلى ألسنة ضحايا أخريات، عبر مشاهد متخيلة عمق المأساة الإنسانية، دون استغراق في سرد يوميات وأحداث الحرب من الناحية العسكرية، حيث تقول بطلة الرواية في إحدى الفقرات الرئيسية المعبرة “أنا ببساطة ابنة الحرب، وضحيتها ومعناها إن كان لها معنى”.
يوضح الناظر، لـ“العرب”، أن الإنسان وتجربته، بما فيها من أوجاع وتساؤلات منطقية حول صراعات، قد لا يكون مسؤولا عنها، كان دافعه الأول لكتابة هذا العمل، فالرواية تطرح تساؤلات أزلية وربما تبقى أبدية ما بقي الإنسان على ظهر هذا الكوكب، فالمبررات والمكاسب لا تستحق كل ما تخلفه من أوجاع ومآس على بني الإنسان.

وفي رأيه، فإن البشرية تحاول، منذ وعت حقيقة وجودها وأهميته، تحاول الإجابة على مثل هذه التساؤلات الخاصة بمبررات الحروب بشكل أو بآخر، وبصورة أخص، يبذل الأدب محاولات لانهائية في البحث عن مقاربات مفهومة حول هذا الموضوع.

ويشير الروائي السوداني، إلى تصوره بأن الحال سوف يظل كذلك إلى وقت طويل، لأن الطبيعة التي صُمم عليها هذا الكون تقوم على مبدأ أساسي، وهو مبدأ البقاء، ولأن الإنسان النسخة الحيوانية الأرقى من بين المخلوقات الأخرى يخوض صراعات ذات طبيعة معنوية تساعده على السيادة والبقاء، كالهوية والسلطة والدين واللون والثقافة، بينما تتصارع الأنواع الأدنى حول الماء والطعام والنفوذ وكل ما يساعدها على البقاء.

كتب

ويكشف الروائي السوداني، أنه بدأ التركيز في فكرة الرواية عام 2015 عندما شهدت العاصمة السودانية الخرطوم، محاكمة الفتاة مريم يحيى بتهمة الردة، ثم حكم عليها بالإعدام قبل أن تسقط عنها الحكومة التهمة لاحقًا وتفرج عنها نتيجة ضغوط دولية شديدة.

يقول لـ”العرب” إن قضية مريم ألهمته فكرة اختبار الاختيارات الشخصية وأهمية الحياة الفردانية، مقابل سيطرة التوجهات الجماعية على خيارات الأفراد، وفق المنظور الديني أو السياسي الاجتماعي أو غيرهما.

حاول الروائي السوداني من خلال شخصية الفتاة “عرفة” خلق حياة أخرى متخيلة لمريم يحيى، تمر بمآسي الحرب وتواجه صورتها الأكثر قتامة وبشاعة وهي عزلاء وحيدة، ثم تنتهي الحرب بصورة تراجيدية وتنتقل الفتاة من معسكرات الأسر إلى مدينة بورتسودان على البحر الأحمر. وهناك تلتقي مدرسًا مسيحيًا، وتقرر الارتباط به، وعندها فقط تستيقظ الذاكرة الجمعية التي تناست “عرفة” خلال رحلة المأساة الطويلة لتقرر بالإنابة عنها بمن تتزوج وكيف، فتضطر لخوض صراعات مريرة للدفاع عن حقها في الاختيار.

ويضيف الناظر، بأنه يدرك أن دور المبدع كشفي تنويري وتسجيلي للحظات الوجع الإنساني، وهو غير مسؤول عن وقف الصراعات أو التحكم في صعودها وهبوطها، لكن عليه أن يكشف الحقيقة، ويُعيد رسم المأساة مرة أخرى، ويخضع المسلمات لإعادة الفحص تحت المجهر الإبداعي.

الحرب وفن السرد

حامد الناظر

يشير الأديب السوداني، إلى أن فن السرد منذ القدم معني بقضايا الصراع ومُستدعى إلى ساحات الحرب، لأنه معني بالإنسان وأوجاعه، فهو في عمق الحروب منذ اللحظات الأولى لميلاده كفن، مستشهدا برواية “دون كيخوته” للأديب ميغيل ثيربانتيس التي يُنظر إليها على أنها الانطلاقة الأولى للفن السردي الحديث.

وتناولت هذه الرواية أسطورة الفرسان الجوالة في محاربة الأشرار وفي ساحات الحروب بأسلوب مزج بين السخرية والواقعية، ومن يومها لم يكف الفن السردي عن محاولاته الخوض في مسألة الحروب والتعريض بصُنّاعها والتنبيه إلى آثارها الوخيمة من خلال الخيال الإبداعي المدهش.

وحامد الناظر، روائي وإعلامي سوداني من مواليد 1975، حصل على بكالوريوس إدارة الأعمال في كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بجامعة أم درمان الأهلية، وعمل مذيعا بعدة قنوات إخبارية عربية، وكاتبا ببعض الصحف والمواقع الإلكترونية العربية.

وبدأ مشروعه الإبداعي بكتابته رواية “فريج المرر” والتي حققت رواجا واضحا، وفازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي سنة 2014، ثم كتب بعد ذلك رواية “نبوءة السقا” والتي رشحت للقائمة الطويلة لجائزة “البوكر” عام 2016، ثم رواية “الطاووس الأسود”، ورشحت للجائزة نفسها بعد عامين.

ويلفت الناظر في حواره مع “العرب”، إلى أن مشروعه الروائي له أفق إنساني رحب، وهو شخصيا منحاز لذلك، لأنه يعبر عن مغزى وجود الأدب في حياتنا، فالفن السردي، في أصله وفلسفته وعمقه مشروع إنساني متصل بالأفكار والمذاهب والأديان والسياسات بدرجات مختلفة، وكل مشروع روائي ينتصر لفكرة ضيقة أو مشروع جانبي لا ينتمي لهذا الفن العظيم بالضرورة.

ويعتقد أن الرواية، هي المعبر الأول عن كل جيل، ولا يعرف كيف سيكون حال العالم العربي من دون رواية، فما حدث وما يحدث من تحولات وصراعات وقهر وعبث فوق الاحتمال، ولولا فن الرواية لما تمكن الكثيرون من استيعاب كل هذا القبح، قائلا “أكتب بدافع مهم هو الرغبة في صناعة الجمال وإشاعته”.

ويرى الناظر، أنه في كل مجال يوجد أخ أكبر مراقب يسعى للسيطرة والتوجيه، لا يمكن مقاومته سوى من خلال السرد، فهو لعبة الخيال الأقوى في مواجهة الرقابة والتسلط.

قضية مريم ألهمت الكاتب فكرة اختبار الاختيارات الشخصية وأهمية الحياة الفردانية، مقابل سيطرة التوجهات الجماعية على خيارات الأفراد

ويبدو الروائي السوداني، متحمسا للأجيال الشابة في فن الرواية، معتبرا فورة الرواية دليل تآلف وازدهار، والجوائز في نظره وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، فالجائزة من حيث هي مناسبة مهمة لإعادة الاعتبار للفنون في الحياة، ولمحترفي الكتابة الإبداعية عموماً وتشجيعهم على التنافس النبيل، كذلك لحضور أسمائهم وأسماء أعمالهم في وسائل الإعلام لبعض الوقت.

ويتابع قائلا “ما تحدثه الجوائز من صخب إعلامي وجدل يعتبر أمرا محمودا في تقديري، لأنه بشكل ما يعيد الزخم إلى الكِتاب وصناعة الكتابة، فالكاتب والقارئ يتحققان معاً عبر هذه الصناعة المهمة، وعبر العلاقة المعرفية الجميلة”.

ويضيف لـ”العرب”، أنه يشعر بالرضا والمسؤولية في آنٍ واحد، لكونه يمثل طرفاً في هذه العلاقة المقدسة، ما يعني أنه سعيد لحضور رواياته في قلب المشهد الإبداعي العربي وفق شروطه وظروفه الماثلة.

15