حافظ قائد السبسي أزمة الابن الذي يسير في ظل أبيه

الواقف على مسيرة ابن الرئيس التونسي السياسية لا يظفر بسجل يذكر في هذا العالم فيما تغمز مصادر عليمة بأن والدته كانت وراء الترتيب لسلك ابنها نهج والده.
الأحد 2018/07/29
حافظ قائد السبسي براغماتي حالم يخوض عالم السياسة بعقلية الأعمال

يعيش المشهد السياسي في تونس هذه الأيام على وقع سجال طويل خيوطه متشابكة، ودروبه تأبى الإفصاح عن القادم والبعيد، فيما محوره معلن وظاهري وهو التمسّك بتغيير حكومة يوسف الشاهد.

تغيير بدت ملامحه موضوعية وواضحة لمنتقدين لأدائها وطريقة تسييرها لبعض الملفات، فيما كانت كاميرات المراقبة مسلّطة أكثر على الذين يطالبون بنهج التغيير والدافعين إليه بشتى الطرق والوسائل. خلافا لاتحاد الشغل، الذي لاح كأكثر المطالبين برحيل الشاهد، برزت وجوه محسوبة على الحزب الذي أتى بالشاهد رئيسا للحكومة.

هو وجه أطل على حين غفلة من جميع التونسيين. يصفه البعض بالسائر وراء خطى والده في كل كبيرة وصغيرة، فيما يقول عنه خصومه إنه السبب وراء الأزمة السياسية التي تعصف بالمشهد السياسي حاليا.

محمد حافظ قائد السبسي، ابن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي. الاسم الذي لاح على التونسيين ذات يوم من وراء الشرفات يتبع خطوات والده ويعرّف نفسه بأنه “نجل” الرئيس. شخصية برزت في أحلك ظروف المشهد السياسي ارتباكا عام 2012. اسم اعتاد التونسيون على صمته أكثر من كلامه، فيما اعتاد هو التواري عن الأنظار والسير في الكواليس أكثر من الظاهر والخارج للشعب ودوائر السياسة عموما إلا في ما ندر.

وخلافا للتاريخ السياسي الطويل وخبرة الأب الكبيرة وحنكته وتجربته المشهود له بها، فإنه على النقيض تماما من ذلك لاح النجل خجولا، صامتا، متواريا عن الأنظار، أرجعه البعض إلى تلعثم في المنطوق الخارج للناس، فيما يؤكد منتقدوه أن الفصيح من اللغة لم يجد طريقه إلى هذا الابن الذي خدمه عالم السياسة وأظهره بإثارة يطرحها ملف هذا الرجل في الخزائن الخفية والأجهزة الناشطة للدولة بالموازاة مع عجز كامن في أداء حكومتها وتآكل حزامها السياسي عجزت معه عن البت في قضايا مصيرية وملفات وازنة لم تعد تقبل التأجيل.

القيادي السابق بنداء تونس لزهر العكرمي يهاجم صراحة حافظ قائد السبسي قائلا 'في ذكرى تأسيس الحزب لا يمكننا أن نعد حافظ سوى بعدم إدخاله السجن إذا قرر الانسحاب دون شرط'. أما رئيس حركة مشروع تونس محسن مرزوق فيقول عنه في تصريح تداولته وسائل التواصل الاجتماعي إن 'نجل الرئيس أحاط نفسه بمجموعة من الانتهازيين والبراغماتيين الذين اختاروا التخندق وتضليل العدالة'

يقارن مهتمون بشخصية حافظ قائد السبسي بين تلك الصورة التي أطل بها على المشهد السياسي في تونس عام 2012 وبين صورته الحالية، فيكتشفون البون الشاسع الذي طبع الشكل الظاهر لدى جمهور المتابعين لكواليس هذه الشخصية السياسية وتحركاتها داخل المجموعات الراقصة على مسرح الأحداث في تونس.

تغيّرت صورة الابن كثيرا عن الأمس القريب الذي كان فيه على هامش المشهد السياسي يتقفّى خطوات والده وهو يتجول لحشد أنصاره داخل المناطق الأكثر كثافة في العاصمة تونس ودواخلها، ويتخذ مكانا قصيّا بعين الناظر لوالده في كل شاردة وواردة، راصدا أدق التفاصيل ومتابعا لحوارات السياسيين وخطاباتهم على طريقة طالب جاد في التدرّب على النصح والتوجيه ليعمل على تقليديها في ما بعد، قبل أن يصبح التقليد علنيا الآن في محور المجارات والاندفاع نحو ركوب الخطر والذهاب بعيدا في طريق المزالق والمطبات الكبرى، وما أحداث المشهد السياسي الأخيرة إلا خير دليل على ذلك.

يجد ذلك مبرّرا له في النهج الذي خطه الابن لمسيرته في الحياة السياسية التي يقول منتقدون له إنه يخوضها بعقلية الحسابات الضيقة والبراغماتية التي لا تراعي مصلحة الجميع داخل كيان حزبي وازن تأسس ليكون ندا لكنه سرعان ما أصبح ضدا للمنتسبين إليه، زادهم حمق المصالح والجري وراء المناصب قبل المكاسب تفتيتا وتشظيا. 

ابن الرئيس الذي لا يشبهه

مسكون بهاجس حماية إرث أبيه ونهجه
مسكون بهاجس حماية إرث أبيه ونهجه

يقول أشد المنتقدين تفاعلا مع صورة “ابن الرئيس” الذي كثيرا ما يصرّ على الظهور في الصفوف الأولى لكل اللقاءات الهامة والمشاورات الحزبية، إن رؤيته تغيرت إثر عودته من فرنسا دون تحصيل شهادة علمية أرسل من أجلها إلى هناك، فحاول منذ 1987 أن يثبت لأبيه أن فشله في الدراسة لا يعني أنه “الابن الضال”، فانخرط في السياسة من بوابة الحزب الاجتماعي للتقدم أو ما يعرف بالحزب الاجتماعي التحرري الذي كان فيه شخصية ثانوية غادرت الحزب بعد حصولها على المرتبة الأخيرة في انتخابات 1989.

فشله في عالم السياسة كهاو قاد السبسي الابن إلى تغيير وجهته نحو النشاط الجمعياتي وعالم الرياضة عبر فريق كان محببا إلى قلبه وهو الترجي الرياضي التونسي، لينتهي به المطاف قبل 2011 بأن أصبح عضوا في الهيئة المديرة للفريق الذي يرأسه رجل الأعمال الشهير حمدي المؤدب.

الواقف على مسيرة الابن السياسية لا يظفر بسجل يذكر في هذا العالم الذي اختار طوعيا الانتساب إليه رغم أنه لم يكن من هواته، فيما تغمز مصادر عليمة بأن والدته شاذلية سعيدة فرحات، التي منحت ابنها تقاسيم وجهها ودعمها له في كل خلافاته مع والده الذي أعلن مرارا تذمّره من سلوك ابنه، كانت وراء الترتيب لسلك ابنها نهج والده ودفعت بشدة لتذليل جميع العقبات بينهما. 

لكن علاقة حافظ بأبيه عرفت تحسنا خلال تلك الفترة، أرجعه البعض ربما إلى اختيار الابن نهجا آخر غير عالم السياسة آثر من خلاله العمل على استمالة قلب والده، ليعودا بعد 2011 مع صعود نجم الأب ليحيي حلم الابن، الذي يقول عنه منتقدون إن اسمه لم يكن يعني شيئا لمتابعي الشأن العام غير أنه “ابن الباجي” والسائر وراءه كظله في كل تحرك وخطوة يخطوها.

هنا سطع نجم حافظ قائد السبسي الذي اختار التخندق وراء تركة الأب “الثقيلة” وبات يحكم بأحكامه عبر ترؤس اللقاءات الحزبية واجتماعات الهياكل ظنا منه أنه أحق من غيره بذلك.

لكن ما قد يعاب على الأب المؤسس لحزب نداء تونس، وفق منتقدين، أن ابنه كان ضحيّة لرفض أبيه أن يلمع نجمه أو أن يكون في الصورة، فاكتفى بتكليفه بمهمّة رئيس لجنة التنظيم المختصة بالتظاهرات في بداية 2013 ثم تقلّد منصب رئيس لجنة الهيكلة والتنظيم، فيما يصنف مراقبون ذلك في خانة اللعبة السياسية والدهاء التكتيكي للباجي الذي خيّر إبعاد ابنه عن الصخب الإعلامي وأجواء التهويل خصوصا وأن الحزب كان في بداية مسيرته التأسيسية. 

الواقف على تركة الرئيس

لكن هذه القاعدة سرعان ما تم اختراقها في أول منعطف، ولأن حافظ يرى نفسه صاحب الفضل فقد قرر المرور من الكواليس إلى واجهة الحزب، وهو خروج قال عنه السبسي الابن إنه غير مقصود، فالولد والوالد لم يكونا يريدان ذلك وكلاهما يرفع شعار أنه ضد التوريث.هذا الانتقال من الهامش إلى المحور، تم بمباركة الباجي الذي خص ابنه بنصائح مستشاره الخاص في سنة 2013 محمد الغرياني، آخر أمين عام للتجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، ليقدم حينها الغرياني نصائحه الثمينة لحافظ ويحيطه برجالات الصف الثاني في التجمع لخدمته ويربط له علاقات مع أوساط المال والأعمال.

 والغرياني الذي غادر الحزب سريعا لم يغادر موقعه كذراع يمنى تخطط وترسم لحافظ. فالأمين العام السابق للتجمع نجح قبل مغادرته في تثبيت موقع حافظ وحشد الأنصار له، ولكن نجاحه الأساسي كان في إحداث صداقة بين السبسي الابن ورجل الأعمال شفيق الجراية، وهي صداقة يقول منتقدون للرجل إن أساسها الثابت هو المصلحة المتبادلة. ليدعمها في ما بعد بعقد شبكة علاقات هامة مع العديد من رجال الأعمال واللوبيات المتنفذة في أجهزة الدولة، ما جعله محاطا برموز النظام السابق الذين باتوا من مستشاريه وأعوانه في كل مسار يخطوه بما يستجيب لدافعه البراغماتي النفعي بالأساس.

التوريث بمعناه الأفقي والعمودي يبدو أقوى اليوم، قياساً بلحظة تولي الباجي قائد السبسي رئاسة الجمهورية إثر انتخابات 2014. حين ترك مؤسس نداء تونس فراغا كبيرا لم تقو الأطياف التي كانت منصهرة ومتجانسة على سده.

هنا بدأت آلة الابن تشتغل على أكثر من واجهة لتنفتح على أهواء المال والأعمال والرموز “المتعفنة” في عالم السياسة معوله في ذلك ضرب كل ما هو خارج عن خطة العمل المرسومة سلفا والتضحية بالعديد من الأسماء التي كانت إلى وقت قريب من الدائرة الكبيرة لهذا الحزب وإحدى الركائز الأساسية فيه.

الواقف على أزمة نداء تونس إبان الانشطار الذي دبّ في صفوف الحزب لأول مرة لا يخال أن أزمة كفاءات هي من عصفت بهياكله ومؤسسيه وأدت به إلى الحال التي وصل إليها حاليا، باعتبار الوجوه البارزة التي ضمها الحزب إلى دائرته في بداية انطلاقته، وإنما الأزمة الحقيقية كانت بدخول الابن على خط التسيير وفرضه رأيا لم يتقبله الكثير من هذه الوجوه، فيما يقول مراقبون إن الابن قرر إعادة كتابة تاريخ حزب أبيه وجعله مسألة شبه عائلية دبّرت في غرفة مغلقة بين الأب وابنه وأصدقائهما، ليصبح بذلك الابن مؤسسا لا تابعا.

أشدّ المنتقدين لمسيرة حافظ قائد السبسي في عالم السياسة يقرون بأنه مسكون بهاجس حماية إرث أبيه ونهجه الذي بالغ في تعظيمه كما بالغ في تذمره من إنكار خصومه عليه أن يكون سياسيا كأبيه.

ولأن السياسة كما تصدح الأمثلة الشعبية مهنة توريث، فمثلما يكون ابن الطبيب طبيبا وابن الصيدلي صيدليا، ربما من هذا المنطق يتساءل النجل في انزوائه وخلوته لماذا لا يكون ابن الرئيس نسخة مصغرة لأبيه وزعيما سياسيا ينقذ البلاد والعباد. لكن الإجابة عن هذا السؤال تجد طريقها في وضعية الحزب التي توصف بالكارثية وما آل إليه منذ تولي حافظ إدارته التنفيذية من أزمات متكررة انتقلت من داخل جدرانه الضيقة إلى القصبة، مقر الحكومة الرئيسي، وقصر الرئاسة بقرطاج. 

توريث عربي جديد

حافظ قائد السبسي مثال للصراع الدائر بين أجنحة الحكم في تونس
حافظ قائد السبسي مثال للصراع الدائر بين أجنحة الحكم في تونس

التوريث بمعناه الأفقي والعمودي قويت مفاعيله بعد تولي الباجي قائد السبسي رئاسة الجمهورية إثر انتخابات 2014. ترك مؤسس الحزب فراغا كبيرا لم تقو الأطياف التي كانت منصهرة ومتجانسة إلى حين على سده. هنا بدأت العائلة الموسعة لحزب نداء تونس تستكشف الأثر العميق الذي تركه المؤسس. اعتقد الكثير من الندائيين المؤسسيين للحزب بعد انتخابات الرئاسة التي أسقطت النهضة وأخرجتها من دائرة الحكم في 2014 أن المسألة باتت محسومة بإشراك الجميع في مناصب سيادية بالدولة.

لكن شاءت السياسة ودروبها أن تسير عكس ما اشتهاه هؤلاء ورغبوا فيه طامعين في أن من حق حزبهم عليهم، وهو المثل الأقوى في الدولة والبرلمان حينها، أن يمنحهم هذا الحق لكن سرعان ما دبّت الخلافات وتخلل الشقاق الصفوف وبدأت أزمات الحزب تخرج إلى العلن. حينها وجدت مشارب عديدة ضالتها في تأزيم وضع النداء ودفعه إلى المزيد من الشقاق وأولها حركة النهضة التي كانت تدفع نحو تشظي قيادات الحزب وانشطارها إلى صنفين وخروجها من الحزب.

متابعو أزمة المشهد السياسي في تونس منذ تفكك حزب النداء وتزايد حدة شقوقه الداخلية إلى حدود الأزمة المعلنة حول مصير حكومة الشاهد يتراءى لهم أن العقدة المحركة والمعمقة لهذه الأزمة محورها الأساسي هو الابن الذي اتجه ناحية المال والأعمال وأدخل الحزب في أتون الخلافات الضيقة بانسلاخه عن المجموعة المؤسسة واختياره التخندق وراء لوبيات الفساد.

وهو ما بدا واضحا في نقد وجهه القيادي السابق بنداء تونس لزهر العكرمي هاجم فيه حافظ قائد السبسي بالقول “في ذكرى تأسيس الحزب لا يمكننا أن نعد حافظ سوى بعدم إدخاله السجن إذا قرر الانسحاب دون شرط”، فيما قال عنه رئيس حركة مشروع تونس محسن مرزوق في تصريح تداولته وسائل التواصل الاجتماعي “حافظ لا مستقبل له دون أبيه”، مضيفا أن “نجل الرئيس أحاط نفسه بمجموعة من الانتهازيين والبراغماتيين الذين اختاروا التخندق وتضليل العدالة”.

حافظ قائد السبسي مثال للصراع الدائر بين أجنحة الحكم في تونس وهو أيضا عيّنة من إفرازات المشهد السياسي المترهل الذي دفع إلى الواجهة بوجوه كانت محسوبة على هامش الدوائر الضيقة للأحزاب، فيما الأهم من كل ذلك دخوله على خط المعركة في اعتقاد واه منه بأنه الحريص على تركة أبيه الذي أضحى يتحرك في كل الاتجاهات منذ أيام لتطويق الأزمة الخانقة التي وضع فيها ابنه الحزب والحكومة معا.

8