جيمس جيفري صندوق أسرار الخطة البديلة لواشنطن

حين أعلنت وزارة الخارجية الأميركية رسمياً صيف العام الماضي عن تعيين السفير جيمس فرانكلين جيفري في منصب الممثل الخاص للولايات المتحدة لشؤون سوريا والمبعوث الخاص للتحالف الدولي لهزيمة داعش كانت الأوضاع تختلف كثيراً عمّا هي عليه في هذه اللحظة، سواء على مستوى خرائط السيطرة والنفوذ السياسي والعسكري الدولي والإقليمي في سوريا، أو حتى على مستوى مقاربات واشنطن ذاتها للملف السوري.
السفير جيفري دبلوماسي مخضرم، يتمتع بخبرة في القضايا السياسية والأمنية والطاقة في منطقة الشرق الأوسط بعامة وكذلك في منطقة البلقان بخاصة. وقد شغل مناصب رفيعة في الحكومة في واشنطن العاصمة وفي الخارج، بما في ذلك منصب نائب مستشار الأمن القومي، وسفير الولايات المتحدة في العراق وتركيا وألبانيا.
يتمتع جيفري بخبرة عسكرية تعود إلى سنوات خلت، وذلك من خلال انضوائه في المهمات العسكرية التي خاضها جيش بلاده في الخارج؛ وقد خدم في الجيش الأميركي بألمانيا، وأيضاً خلال حرب فيتنام، برتبة ضابط مشاة. ولكن لاشك أن اختيار الخارجية الأميركية لجيفري بالذات لقيادة هذه المهمة الصعبة في ملف هو الأكثر تعقيداً وتشابكاً وحساسية في الدبلوماسية المعاصرة كانت له أسبابه.
إلمام عميق بالشرق
من أهم ما يميز جيفري لشغل هذا المنصب هو إلمامه العميق بتفاصيل المنطقة الجيوسياسية من خلال الدراسات الأكاديمية التي اختصّ بها عن منطقة الشرق الأوسط؛ فقد كان جيفري باحثاً في معهد واشنطن للشرق الأدنى، وهو المعهد المعني بتقديم دراسات معمّقة ورؤية مستقبلية لمفاصل الاستراتيجيات الدبلوماسية والعسكرية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط مع تركيز خاص على تركيا والعراق وإيران. هذا من الطرف الأكاديمي لمعرفته الدقيقة في شؤون المنطقة، أما عن الشق الدبلوماسي والسياسي فشغلُه منصبَ سفيرِ واشنطن في العاصمتين أنقرة وبغداد وضعه في قلب الحدث والتناول المباشر لقضايا المنطقة التي تتقاطع في أكثر من موقع.
ويعتبر جيفري من الصقور الأشداء في إدارة الرئيس دونالد ترامب، وله موقف متشدد جداً من إيران وروسيا وتوغلهما السياسي والعسكري في سوريا. كما عُرفت عنه معارضته لقرار الرئيس بالانسحاب من سوريا وذلك يعود إلى قناعات قديمة لديه، فقد كان معارضاً قوياً لانسحاب القوات الأميركية من العراق في عام 2011 الذي أقره باراك أوباما في ذلك الوقت.
رؤيته تقوم على قناعة خالصة لديه بأنه من غير تواجد أميركي فاعل ونافذ على الأرض عبر استمرار القوات المتواجدة هناك في القيام بمهماتها، في القضاء على الإرهابيين والمسلحين المتطرفين ومقاتلي داعش، وتمكين الأمن والاستقرار في المنطقة، فإن كل فراغ ستتركه الولايات المتحدة سيتم ملؤه من قبل الميليشيات الإيرانية العابرة للحدود.
إلا أن جيفري يعرف تماماً أن نظريته تلك مرتبطة بقدرته على تمكين تفاهمات على الأرض لحماية القوات الأميركية من هجمات يمكن أن تتعرض لها من أية جهة تعارض تواجدها على الأرض السورية، سواء كانت من قوى العشائر في المنطقة أم من الميليشيات الإيرانية التي تعادي أي نفوذ للولايات المتحدة في المنطقة.
إيران وجنيف
لقد اجتمع الحزبان في الكونغرس الأميركي على رأي واحد إثر الدخول التركي للأراضي السورية، بضرورة بقاء القوات الأميركية في الشمال السوري، واتفقا على أن قرار الرئيس ترامب بسحب قواته كان كارثياً، ما أعطى الرئيس رجب طيب أردوغان الضوء الأخضر لتنفيذ تهديداته واجتياح الشمال السوري، دون النظر إلى تعريض حياة المدنيين العزل من العرب والكرد للخطر.
جيفري واحد من السياسيين المحنكين دبلوماسياً، لكنه في الوقت ذاته يعد في واشنطن من المتشددين تجاه إيران وروسيا، وقد انتقد كثيراً سياسة ترامب تجاه روسيا، إلا أنه ينحاز إلى تحسين العلاقات مع تركيا، وبالتالي لن يكون صديقاً حميماً للكرد، وهذا سيفقده هامش المناورة السياسية على الورقة الكردية شرق الفرات. كما تعوّل واشنطن عليه في إدارة مفاوضات حازمة مع الأطراف الإقليمية المختلفة، وكذلك ما تبقّى من فصائل مسلحة في سوريا، بما يضمن لواشنطن حصة من النفوذ في سوريا والمنطقة.
رحّبت المعارضة السورية بتعيين جيفري حاملاً للملف السوري في مرحلة سياسية حاسمة تضغط فيها المعارضة بجناحها السياسي على عودة الملف التفاوضي إلى جنيف، بعد المحاولات الروسية والإيرانية لتعويمه بين مؤتمرات سوتشي وأستانة. وكان لإعلان أمين عام الأمم المتحدة خلال اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك في دورتها الـ74، عن إطلاق اللجنة الدستورية السورية بإشراف وإدارة أمميَّيْن، دور كبير في إنعاش العملية السياسية ضمن مظلة القرارات الدولية وفي مقدمتها قرار مجلس الأمن رقم 2254.
الخطة باء
وتحظى اللجنة الدستورية بمباركة أميركية لافتة حيث حضر وفد من ممثلي وزارة الخارجية في واشنطن وجنيف اجتماع الرياض الذي نظمته هيئة التفاوض السورية هو الأول بين أعضاء اللجنة الدستورية الخمسين ومبعوث الأمين العام للأم المتحدة إلى الملف السوري، السفير غير بيدرسن وفريقه الأممي.
وقد يكون هذا الظرف السياسي الجديد مع إطلاق اللجنة الدستورية التي حظيت بشرعية أممية من الظروف المثالية والسلسة ليمارس السفير جيفري دوراً قوياً في تنشيط مسار جنيف حيث ستحتفي الأمم المتحدة في تاريخ 30 أكتوبر 2019 بإطلاق أعمال اللجنة الدستورية رسمياً.
وأصبح متوقعاً أن تقوم الولايات المتحدة، ممثلة بجيفري، بمقايضة وجودها العسكري إثر إعلان ترامب انسحاب قواته العسكرية من سوريا، بانفتاح سياسي واقتصادي للدول الحليفة لها على دمشق ولكن بعد استكمال عملية الانتقال السياسي وكتابة دستور جديد لسوريا وإجراء انتخابات مراقبة دولياً يشارك فيها اللاجئون والنازحون السوريون في مناطق ودول انتشارهم.
ترافق تعيين جيفري في منصبه الجديد مع تجميد تمويل واشنطن لصندوق تمكين الاستقرار في سوريا، حيث ألغت الخارجية الأميركية تحويل مبلغ 230 مليون دولار إلى صندوق تمكين الاستقرار، إذ ترى واشنطن أن المساهمة في الإعمار لا تزال سابقة لأوانها طالما أنها لا تزال غير واثقة من إمكانية ديمومة نفوذها في منطقة شرق الفرات، وكذلك لم تحقق هدفها في دحر الميليشيات الإيرانية من سوريا ووضع الشروط القوية على الدول التي ستساهم في إعادة الإعمار بألا يكون النظام الحالي شريكاً في العملية، وأن لا إعادة إعمار قبل انتقال سياسي عادل في سوريا حسب القرار 2254.
ومن نافلة القول أن قرار الانسحاب الأميركي من سوريا، وما تلاه من اتفاق أميركي تركي تم توقيعه في أنقره، ثم ما جاء في خاتمة مقلقة تضمنها الاتفاق التركي الروسي في سوتشي الذي وقعه الرئيسان رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، كلها مجتمعة ستدعو جيفري إلى تنفيذ الخطة باء للبنتاغون وهي إعادة تموضع رمزي للجنود الأميركيين حول آبار النفط في شرق الفرات في الوقت الذي تحتفظ فيه الولايات المتحدة بعلاقتها مع قوات سوريا الديمقراطية مقابل أن تمتنع الأخيرة عن أية مصالحات منفردة مع النظام برعاية ومباركة روسيّتَيْن.
أدلى جيفري بإحاطته عن الوضع في الشمال السوري في جلسة استماع بالكونغرس بتاريخ 23 أكتوبر الجاري، وأجاب عن تساؤلات أعضاء الكونغرس حول ما يصل من صور وفيديوهات عن ارتكاب الجيش التركي جرائم حرب أثناء تدخله العسكري في الأراضي السورية فوراً بعد الانسحاب الأميركي.
وأفاد جيفري الكونغرس بشهادته ومفادها أن السلطات الأميركية تقوم الآن بمراجعة تلك المستندات التي تكشف عن جرائم حرب محتملة حدثت على أيدي القوات التركية والميليشيات المتشددة المدعومة من أنقرة، وأضاف أن المئات من القوات الكردية الحليفة لواشنطن قتلوا في العملية العسكرية التركية، وأكد أنه تم طلب توضيحات من الجانب التركي عن هذه الجرائم التي ترقى إلى جرائم حرب، وتعهد أمام لجنة الاستماع باتخاذ كافة الإجراءات المناسبة للتعامل مع هذا الملف لأنه حسب الدستور الأميركي “هذا الموضوع يحظى بالأولوية في سلم العلاقات الأميركية الخارجية” حسب إفادته. وتابع، موضحاً، أن الغزو التركي تسبب بفرار العشرات من مقاتلي تنظيم داعش منذ شرعت تركيا في عملية نبع السلام شمال شرقي سوريا. وأجاب في الموضوع نفسه عن سؤال السيناتور الديمقراطي، كريس كانز، خلال الجلسة، عما إذا كان يستطيع تحديد عدد مقاتلي داعش الذين هربوا من المعتقلات بأنه لا يستطيع تحديد عددهم ولكنهم بالعشرات، وأنه ليس لدى الولايات المتحدة خطة لاستعادتهم.
أما السيناتور بوب منينديز كبير الديمقراطيين في لجنة الاستماع فلفت نظر جيفري قائلاً إن “الانسحاب بعث برسالة خاطئة مفادها ألا تقاتل من أجل الولايات المتحدة، لأنهم عندما ينتهون منك سيتخلون عنك وتموت في ساحة المعركة”. أجاب جيفري بأن الإدارة الأميركية تعمل على استخدام الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية الممكنة لتحسين الوضع القائم، ولا أحد يعرف مثلما يعرف جيفري كيف تجري الأمور في الإدارة الأميركية اليوم.