جورج أورويل ومعايير "الحياد"في "بي.بي.سي"

تُفاخر “بي.بي.سي” بأن صاحب رواية “1984” كان ذات يوم أحد موظفيها. لا شك أنه تعلم فن الخداع منها، فكتب أشهر رواياته بالكشف عنه والسخرية منه.
وعلى الرغم من أن النقش على الحائط خلف تمثال جورج أورويل على بوابة “بي.بي.سي” يقول “إن كان هناك أيّ معنى للحرية، فهو أن تملك الحق في إخبار الناس ما لا يريدون سماعه”. فالحقيقة هي أن خبرة أورويل في “بي.بي.سي” ربما كانت هي التي علمته كيف يبني تلك الرواية التي تصدح فيها “وزارة السلام” بكل أصداء الحرب. وكيف يُصبح النفاق هو أساس العلاقة بين الحكومة والشعب.
أورويل استقال من “بي.بي.سي” في العام 1944 ليكتب روايته الشهيرة “مزرعة الحيوان”. وهناك ما يبرر الاعتقاد بأنه كان يرى المزرعة من خلال الميكروفون.
هذه الـ”بي. بي. سي” ناطحت لاعب كرة القدم الشهير السابق غاري لينكر مقدم برنامج “مباراة اليوم”، لأنه كتب تغريدة تنتقد بيان حكومة ريتشي سوناك الذي توعد مهاجري القوارب عبر القنال الإنجليزي بالويل والثبور. وصف لينكر البيان بأنه يكرر لغة النازيين الألمان في ثلاثينات القرن الماضي. فقامت قائمة الحكومة، ومن بعدها قامت قائمة “بي.بي.سي”، دفاعا، كما قيل عن “حيادية” المؤسسة.
كل الذين كانوا يستمعون إلى القسم العربي في “بي.بي.سي”، يعرفون أن هذا القسم في تلك المؤسسة لم يكن حياديا على الإطلاق.
◙ جورج أورويل لو عاد حيا، وشاهد تمثاله أمام مبنى "بي.بي.سي"، لشعر بالعار، وطالب بنصب تمثال لتوني بلير بدلا منه
القسم الذي نشأ كجزء من وزارة المستعمرات وتاليا الخارجية، كان صوتا للاستعمار. حارب إلى جانبه خلال العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، وظل يناصب ثورة 1952 بقيادة جمال عبدالناصر العداء، وتشفّى بالهزيمة العربية في العام 1967 عندما نجحت إسرائيل في احتلال سيناء ومرتفعات الجولان، واستكملت احتلال القدس وغزة والضفة الغربية. وصولا إلى غزو العام 2003 للعراق بذريعة وجود “أسلحة دمار شامل”.
نجح القسم العربي في “بي.بي.سي” باستقطاب بعض الخبرات والأصوات العربية، إلا أنه وظفها لخدمة “الحياد” الاستعماري. كان الأمر بمثابة تجسيد لثقافة الخداع التي اتسمت بها السياسات الاستعمارية البريطانية في كل مكان. قدمها بأصوات، إذا خرجت عن القالب المنحاز لخدمة المصالح الاستعمارية، فإنها تُحارب إذا تجاوزت معايير “الحياد”.
قد يقال إن “بي.بي.سي” المحلية تختلف عن فروعها التي وجدت لتدافع عن المصالح الخارجية لبريطانيا. وإن المستمع أو المشاهد البريطاني لا يقبل أن يكون عرضة للخداع. وهو ما قد يوحي بإمكانية التمييز بين الشجرة وفروعها. ولكن هذا مصدر آخر للخداع. المسألة مسألة ثقافة نفاق عامة. لا فرق بين الشجرة وفروعها.
في العام 2003، كانت حكومة توني بلير تريد تسويق الحرب ضد العراق للبريطانيين. وكان على “بي.بي.سي” المحلية أن تمارس النفاق لا الحياد، لتؤدي دورها كصوت من أصوات مزرعة الحيوان.
أندرو غاليغان، كبير محرري الشؤون السياسية في الـ”بي بي سي”، في ذلك الوقت، أجرى مقابلة خاصة مع العالم النووي ديفيد كيلي، رئيس فريق المفتشين البريطانيين في بعثة البحث عن أسلحة دمار شامل في العراق، فكشف له أن العراق لا يمتلك أسلحة دمار شامل. وهو ما كان يتناقض مع الرواية الحكومية، كما يتناقض مع ما تراه الحكومة واجبا على “بي.بي.سي” لتبرير الغزو. فما كان من مجلس إدارة المؤسسة إلا أن قرر طرد غاليغان بزعم أنه “خالف القواعد” التي تُملي الاعتماد على مصدرين في بناء أيّ خبر.
غاليغان أخذ الحقيقة من منبعها. أخذها من المصدر الذي يفترض بالحكومة البريطانية نفسها أن تستعين به. ولكنه فقد وظيفته، لأن هذه المؤسسة أرادت أن تأخذ بأكاذيب حكومة توني بلير، وأن تؤدي دورها كبوق من أبواق الحرب ضد العراق، مثلما كانت تؤديه “وزارة الحقيقة” في رواية “1984”.
الجدل الذي أثير في حينها، دفع أجهزة الحكومة السرية إلى تهديد ديفيد كيلي، لكي لا ينطق بالحقيقة مرة أخرى، وقيل إنه انتحر. عُثر على جثته بعيدا عن منزله على حافة حُرج أشجار.
النفاق الذي يدفع رئيس الوزراء ريتشي سوناك، ووزيرة داخليته سويلا بريفرمان، وهما من أصول هندية مهاجرة، إلى إصدار بيان شديد اللهجة ضد مهاجري القوارب، كان لا بد من أن يثير اعتراضات. ليس لأنه نفاق فحسب، بل لأن بريطانيا لا تعجز عن امتصاص 160 ألف مهاجر، امتصت ألمانيا قبلهم مليونا ونصف مليون إنسان. الاقتصاد البريطاني ليس فاشلا إلى هذه الدرجة. ومعدلات التوظيف ما تزال عالية فيه. وهناك العديد من القطاعات الخدمية التي بُحّ صوتها في التعبير عن الحاجة إلى المزيد من العمال، المهرة وغير المهرة على حد سواء.
لينكر صوت واحد من أصوات العديد من الشخصيات الاجتماعية الكبيرة التي تندد بسياسات التضييق على الهجرة. وهو لم يدل برأي فيها فقط هذه المرة. سبق له وأن سخر من هذه السياسات غير مرة.
◙ كل الذين كانوا يستمعون إلى القسم العربي في "بي.بي.سي"، يعرفون أن هذا القسم في تلك المؤسسة لم يكن حياديا على الإطلاق
ما أثار قلق “بي.بي.سي” هو حجم التضامن الذي لقيه لينكر. كل مقدمي البرامج الرياضية والنقاد الرياضيين والمعلقين، قاطعوا “بي.بي.سي” وأوقفوا العمل في برامجهم.
طُولب لينكر بالاعتذار عن تغريدته. فرفض. فعوقب بزعم أنه تجاوز “معايير الحياد”. الكل يعرف أنها معايير كاذبة. أحد أكبر الذين يعرفون ذلك رئيس مجلس الإدارة نفسه ريتشارد شارب. فهو متبرع لحزب المحافظين، وتولى منصبه بعد “خدمة” قدمها لرئيس الوزراء السابق بوريس جونسون لأجل الحصول على قرض. هذا الرجل لا يمكنه أن يمارس “الحياد”. إنه مثل اللص الذي يُصبح رئيسا لمركز شرطة.
عاد لينكر إلى عمله قائلا “مهما كانت الصعوبات التي وقعت في الأيام القليلة الماضية، فهي لا تقارن بأن يضطر المرء إلى النزوح من وطنه هرباً من الاضطهاد أو الحرب وبحثاً عن ملجأ في أرض بعيدة.. وكم هو مثلج للصدر رؤية تعاطف الكثيرين منكم مع هؤلاء المهاجرين في محنتهم… لا نزال بلداً تعيش فيه أغلبية تمتاز بالتسامح والكرم وحُسن الضيافة”.
“بي.بي.سي” تضطر الآن، كما يقال، إلى “مراجعة” معاييرها. ولكنها لن تفعل الكثير. فقط طلبت الستر بعد الفضيحة.
هذه الـ”بي.بي.سي” لعبت دورا مشهودا في قول “الحقيقة” للبريطانيين، على غرار ما وصفها أورويل، عندما اندلعت السجالات حول مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي في العام 2016. ففازت الأكاذيب، وفاز النفاق. وهو ما سوف تظل تفعله بوصفها صوتا من أصوات “حديقة الحيوان”.
جورج أورويل لو عاد حيا، وشاهد تمثاله أمام مبنى “بي.بي.سي”، لشعر بالعار، وطالب بنصب تمثال لتوني بلير بدلا منه.