جنون كرة القدم يستنفر السلطات الجزائرية للحد من انفلات الإعلام الرياضي

فجرت مختلف وسائل الإعلام الرياضي ومواقع التواصل الاجتماعي سجالا محتدما بعد إقصاء المنتخب الجزائري لكرة القدم من بطولة كأس أفريقيا للأمم وما تبع ذلك من معالجة إعلامية لقضية المدرب الوطني المقال جمال بلماضي، وصلت إلى حد تبادل السباب والازدراء بين الجزائريين.
الجزائر - دعا وزير الاتصال الجزائري محمد لعقاب، في لقاء مع مسؤولي المؤسسات الإعلامية الناشطة في المجال الرياضي، إلى الاهتمام الفعلي بالشأن الرياضي ومراعاة الذوق العام وتقديم الخدمة العمومية للمجتمع، بدل الانزلاق إلى السجالات التي أثرت على الرأي العام وزادت من نفور الجمهور من الإعلام الرياضي المحلي بمختلف تخصصاته، وكادت تتسبب في أزمات دبلوماسية.
ولا صوت يعلو في الجزائر هذه الأيام على صوت تداعيات الخروج المبكر لمنتخب “الخضر” لكرة القدم من النسخة الـ34 لبطولة كأس أمم أفريقيا المقامة بكوت ديفوار. وتدور حرب طاحنة على مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات تلفزيونية خاصة، في مشهد ولد مخاوف حقيقية من انتشار خطاب الكراهية والتحريض ضد بعض الجزائريين واتهامهم بالعمالة والخيانة وضرب استقرار البلد الذي يواجه تحديات متعددة على كل الأصعدة، سواء كان ذلك عن قصد أو عن جهل.
ووصف البعض على مواقع التواصل الاجتماعي ما يجري بأنه “حرب مستعرة” في حين حاول البعض الآخر التقليل من شأن ذلك وإبقائه في إطاره الرياضي لا غير، باعتبار أن منتخب “محاربي الصحراء” لا يملك تاريخا ناصعا في المسابقة الأغلى في القارة السمراء، إذ لم يتوج سوى بلقبين، وغادر من الدور الأول من أصل 20 مشاركة، ثم إن فرقا كبيرة برصيد مرصع من الكؤوس غادرت دورة كوت ديفوار بخفي حنين في صورة منتخبات مصر والكاميرون وغانا التي أحرزت لنفسها 16 لقبا، وبدرجة أقل منتخب السنغال حامل اللقب.
حرب طاحنة تدور على منصات التواصل والإعلام في مشهد ولّد مخاوف حقيقية من انتشار خطاب الكراهية والتحريض
وعبر وزير الاتصال عن قلق الحكومة العميق من أداء ومستوى الإعلام الرياضي في بلاده، خاصة بعدما تحول إلى وسيلة تهدد استقرار وتماسك المجتمع، وتهدد أحيانا بإثارة أزمات دبلوماسية، وأن الوضع بات مصدر انزعاج حقيقي لفعاليات شعبية ورسمية تدخلت لديه من أجل وقف ما وصفه بـ”الانفلات”.
جاءت خطوة وزير الاتصال غداة السجال المحتدم الذي فجرته وسائل الإعلام الرياضي بمختلف تخصصاتها، بعد إقصاء منتخب كرة القدم من بطولة كأس أمم أفريقيا المقامة في كوت ديفوار، وما تبعها من معالجة إعلامية لقضية المدرب الوطني المقال جمال بلماضي، خرجت من إطارها وسياقها إلى انقسام حاد وظفت فيه مختلف الأوصاف والتعابير التي وصلت إلى حد تبادل السباب والازدراء بين أنصار المدرب الداعين إلى بقائه وبين مناوئيه الداعين إلى رحيله.
غير أن الظاهر أن هذا الاحتقان الذي تعيش الجزائر إرهاصاته اليوم هو أكبر بكثير من كونه إخفاقا رياضيا أو خلافا بين رئيس الاتحاد وليد صادي، الذي يصر على تنحية بلماضي، والمدرب الرافض لفكرة الخروج من الباب الضيق بل يريد أن يخرج معززا مكرما لا مهانا.
وحذر أيمن وحيد، أستاذ علم الاجتماع بإحدى الجامعات الجزائرية، من واقع ينذر بالخطر على تماسك الجزائريين أنفسهم، مؤكدا أنه يخشى أن يتسبب هذا الوضع في انزلاق الأمور إلى ما تدعو إليه بعض الأفكار المتطرفة التي تنفث سمومها وشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.
والدعوة التي أطلقها أشهر المعلقين الجزائريين حفيظ دراجي في قنوات “بي.إن.سبورتس” القطرية لرحيل بلماضي، وتقمصه دور الناطق الرسمي لاتحاد الكرة دون تكليف رسمي، جعلا الكثير من المتتبعين يقولون إن الهجوم الحاد الذي تعرض له المدرب المذكور “دبر له بليل وليس وليد الإخفاق على أرضية الميدان”، متسائلين عن مدى أحقية صحافي يشتغل بالخارج في وضع خارطة طريق للكرة الجزائرية دون أدنى اعتبار واحترام لأعضاء الاتحاد. فيما لم يتخلف آخرون عن استخدام مصطلح ” القوى غير الدستورية” لوصف هذا المشهد وكأنهم أرادوا التذكير بالجهات غير الشرعية التي كانت تتحكم في دواليب السلطة في الجزائر خلال السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة.
وتعود تجربة الإعلام الرياضي في الجزائر إلى حقبة التعددية الإعلامية والسياسية في نهاية ثمانينات القرن الماضي، وظلت محافظة على أصول المهنة إلى غاية الانتشار الواسع وظهور وسائل إعلامية مختصة ينافس تعدادها المؤسسات الإعلامية الشاملة، واختص جلها في قضايا كرة القدم، اللعبة الأكثر شعبية في البلاد.
وتحول إقصاء منتخب كرة القدم من الـ”كان” إلى سجال حاد في البلاتوهات التلفزيونية والصحف الورقية والمواقع الإلكترونية، وحتى شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تداخلت الآراء والمواقف والتحاليل بين المختصين والفنيين وبين الإعلاميين والمدونين، إلى درجة الانحدار إلى مستويات تم فيها الاصطفاف وفق الأمزجة الشخصية وما تمليه اللوبيات المتحكمة في اللعبة، بدل تقديم رسالة إعلامية وتثقيفية وترفيهية للجمهور، الأمر الذي زاد من نشر وتوزيع النكسة داخل المجتمع، ليس لإقصاء المنتخب، بل للمستوى الذي انزلق إليه هذا القطاع رغم أهميته في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي.
والتحذيرات من أداء الإعلام الرياضي في الجزائر ليست وليدة اليوم، ويبدو أن السلطة تأخرت كثيرا في ضبط الأوتار بما يتماشى مع قدسية الرسالة، فقد سبق للكثير من الأصوات أن نادت بضرورة تدخل الجهات الضابطة، قياسا بظهور ممارسات حولت الإعلام إلى جزء من أزمة القطاع الرياضي؛ فهو إن لم يتواطأ أو يخضع للوبيات، حوّل مساحات وفضاءات التعبير إلى تصفية للحسابات، فيوظف الدعاية حينا والنقد الجارح في أحيان أخرى، ولا يتوانى في شحن الجمهور، ما فاقم ظاهرة العنف في الملاعب.
وأكد وزير الاتصال في اللقاء الذي نشطه مع وزير الشباب والرياضة ومسؤولين من البرلمان وسلطة السمعي البصري وأكاديميين، وبحضور مؤسسات الإعلام الرياضي في العاصمة، على “ضرورة الارتقاء بمستوى الإعلام الرياضي الوطني وتكييفه مع البيئة القانونية الجديدة، لاسيما بعد صدور النصوص القانونية المنظمة لقطاع الإعلام في الجريدة الرسمية”.
ورفض الوزير الجزائري أن تكون مداخلته محاكمة للإعلام الرياضي لبلاده، لكن الانتقادات التي وجهها له حملت رسالة قلق وانزعاج كبيرين من المحتوى الذي بات يهدد تماسك المجتمع ويقسمه إلى خنادق تتبادل توصيفات وتعريفات غير أخلاقية، فضلا عن عدم تقديره لعواقب التهور والتحامل على الطرف الآخر، مما كاد يتسبب في أزمات دبلوماسية مع دول جارة.
ويبدو أن الوزير يحصد ثمار تركة تراكمت على مر العقود الماضية، لاسيما وأن الإعلام الرياضي المحظوظ بعدم إخضاعه لسلطة الرقيب ولد منفلتا وتطور على ذلك النحو إلى أن صار خطرا يهدد السلم الاجتماعي، رغم أن الأمر يتعلق بمجرد لعبة رياضية انحرفت إلى أبعاد أخرى، كما حدث مع إقصاء المنتخب من الـ”كان” ومع بلماضي.
والأبعاد غير المتوقعة لإقصاء “الخضر” من الـ”كان” أنست الكثير من الجزائريين اعتداءات إسرائيل المستمرة على فلسطين المحتلة، فباتت الموضوع الأول في نقاشات الجلسات الشعبية، وهو ما التقطه سريعا بعض معارضي النظام أو أولئك الذين وصفتهم الحكومة بـ”الإرهابيين” و”المتربصين بالوحدة الوطنية” وحتى من يُسمون بالنشطاء الذين أقحموا أنفسهم في هذا النقاش محاولين الاستثمار فيه واتهام السلطة بالوقوف وراء الإخفاق.
وذكر الوزير أن “الصحافيين ومسؤولي وسائل الإعلام، ملزمون بتطبيق مواد قانون الإعلام الصادر في شهر أغسطس 2023 وقانون الصحافة المكتوبة والإلكترونية وقانون السمعي البصري الصادرين في ديسمبر 2023، وأن هذه القوانين تحدد أطر ممارسة المهنة بالنسبة إلى الوسيلة الإعلامية والصحافي أيضا”.
التحذيرات من أداء الإعلام الرياضي في الجزائر ليست وليدة اليوم، ويبدو أن السلطة تأخرت كثيرا في ضبط الأوتار بما يتماشى مع قدسية الرسالة
وأوضح أن “مسؤولية الصحافي تبدأ بالتحقق من مصدر الخبر ومن مصداقيته وفق ما ينص عليه قانون الإعلام الجديد”، فضلا عن “التأكد من صحة المعلومات الواردة” ومن قابليتها للنشر، مضيفا أنه “من باب المسؤولية، يمكن أحيانا التخلي عن نشر الخبر لمساسه بالنسيج الاجتماعي واستقرار الدولة وعلاقاتها مع الدول الأخرى”.
وحذر مما أسماه “استسلام الصحافي أمام الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، بحيث أصبح ضحية للمعلومات المنشورة في هذه الوسائط بدل أن يتحرك من أجل البحث عن الخبر الصحيح، ولذلك عليه أن يتقيد بمهنته وألا يتحدث بلسان المختصين وهو ملزم باحترام أخلاقيات المهنة واحترام الحياة الخاصة للأشخاص، وكذا احترام الجمهور الذي يطالبه بتقديم المعرفة والمتعة”.
وترفض نجاة (مسؤولة في إحدى الإدارات الحكومية) الهجوم الشرس الذي تعرض ويتعرض له المدرب جمال بلماضي، والنجم رياض محرز، مبرزة أنه لا يحق لبعض وسائل الإعلام التعرض لهما بذلك السوء والدناءة لمجرد فشل حتى وإن كان متجددا في استحقاق كروي “مهم”.
وترى نجاة أن إصرار البعض على ملاحقة بلماضي، حتى في “دورة المياه”، وإظهاره في صورة الرجل الجشع الذي يلهث وراء الأموال فقط لا يليق ولا يتسق مع عادات غالبية الجزائريين أبدا لأنه نسيان لجميل لا ينكره إلا جاحد.
بيد أن الصحافي كمال زايت يرى أن ما حدث مع المنتخب يستحق قراءة اجتماعية ونفسية لجماهير ترفض أن تنظر إلى الفشل على أنه فشل، لافتا إلى أن قطاعات واسعة تريد أن تؤمن بـ”الشخص الملهم” و”الزعيم المفدى” الذي لا يخطئ ولا يسهو، وهو داء يجب البحث له عن دواء حتى لا نصاب بعمى الألوان والأذواق! فكيف يمكن أن نفهم أن جماهير عريضة مقتنعة بأن مدربا يضحي بداعي “الوطنية” لما يمارس مهنة يتقاضى عليها ملايين باليورو وعلى أساس عقد وقعه بجواز سفر فرنسي.
وتابع “بلماضي تحول بعد هذا اللقب إلى بطل أو قديس في نظر الملايين، وأصبح انتقاده أو التشكيك في خياراته كفراً وخيانة للوطن، وهنا بدأ الانحراف. فللأسف في مجتمعات فقدت البوصلة وضيعت الرموز الحقيقية، تحولت الكرة إلى نبع لحب الوطن، ودين كل من لا يعتنقه بدون نقاش أو تفكير هو كافر ملحد يستحق الرجم!”.