جنون الشعراء في الساحات العامة

التقيت في ساحة الطرف الأغر بلندن بمَن يبيع قصائده للآخرين. بضاعة خيالية لم يكن أحد فيما مضى يفكر في بيعها أو شرائها، ولكن مهلا.
دور النشر تبيع الكتب الشعرية التي يشتريها البعض، وكان هناك دائما حديث عن أزمة الكتب الشعرية التي لا تُشترى، لذلك عزفت دور النشر العربية عن طباعة ذلك النوع من الكتب.
العرب لا يقرأون الشعر. تلك صدمة. إذا كان العرب لا يقرأون الشعر وهم أمة شعر، فمن المؤكد أن الشعر قد اختفى في العالم، ذلك ليس صحيحا.
لا تزال هناك في العالم أسواق للشعر. مدن صغيرة حول العالم تحتفي سنويا به وبكتابه، ما يجري في العالم العربي لا يصلح أن يكون قياسا. في أميركا اللاتينية وأوروبا والصين وفي أماكن غير مرئية بيسر لا يزال هناك شعراء كبار.
قد يكون مفاجئا إذا ما قلت إن هناك مغنيات ومغنين يصرون على أن يغنوا كلاما مستعارا من شعراء كبار.
الشعر العظيم ليس غامضا ومعانيه متاحة للجميع. السطحية تغلب، ذلك صحيح، ولكنها ليست صفة تتعلق بعصرنا وحده.
حتى يوم كان المتنبي يكتب قصائده كانت هناك مجاميع بشرية كبيرة تعجز عن ارتقاء سلم جمال لغته.
لم يكن الشعر يوما ما فنا جماهيريا إلا إذا اختار كتابه اللجوء إلى المعاني المتاحة والرخيصة والفجة، حينها يغادر مقامه الرفيع.
في واشنطن سكوير بنيويورك اقترب مني رجل أنيق المظهر، بدلة رمادية بربطة عنق زرقاء على قميص أسود وكنت جالسا أتسلى برؤية الأفعال التي يقوم بها مرتادو الساحة بأزيائهم المرتجلة التي لا تُرى إلا في أميركا.
كان يحمل ثلاثة كتب هي نسخ من كتاب واحد، قرأت عنوان الكتاب الذي كان بارزا، “الحب، الحياة ولا شيء”.
هل كان الرجل يرغب في بيع الكتب التي يحملها؟ ذلك احتمال لا يليق بأناقة الرجل ولا بمظهره الجاد. في البدء لم أفهم طلبه، “هل أنت جاد؟” قال “نعم. أريد أن أصورك وأنت تقرأ شعري” قلت “أنت شاعر إذن؟” قال “هذا كتابي العاشر وأنا مغرم بأصوات الآخرين وهم يقرأون شعري حين أراهم على مواقع التواصل الاجتماعي.”
قلت لنفسي “هذا نوع جديد من الشعراء ممَن يبحثون عن الشهرة المجانية”، قلت له “سأقرأ”، ناولني كتابه وبدأ بالتصوير “اليوم عهدكمُ فأين الموعدُ/ هيهات ليس لعهدكمُ غدُ/ الموت أقرب مخلبا من بينكم/ والموت أبعد منكمُ لا تبعدوا/ إن التي سفكت دمي بجفونها/ لم تدر أن دمي الذي تتقلدُ” توقفتُ فتوقف عن التصوير واحتضنني.
“لم يكن شعري ولكنه شعر عظيم”، “بأي لغة؟”، “بالعربية”، ابتهج “إنها لغة الشعر”، ناولته كتابه غير أنه امتنع عن استلامه، “إبقه معك. لربما سمعت شيئا منه بالعربية بصوتك”.